أصوات الأمواج.. كانت تروي "شوق قلبه!" كلما اقترب نحوها أكثر وعلا صوتها؛ لحظة وصول الحافلة أعتاب الشاطئ، نبضات قلبه تضطرب على غير العادة، ألقت أنفاسه الخائفة طوال المسير أوتادها وهدأت، أخيرًا؛ كان باستطاعته إخراج زفرة طويلة لفظت احتمالات راودته طوال المسير، بإمكانية فشل محاولته العبور إلى "يافا" والعودة إلى قريته: "خالي الوفاض!".
أطفأ السائق المحرك أمام الشاطئ، ونزل أنس شاهين كطفل صغير مشتاق لحضن أمه بعد فراق طويل؛ يركض مسرعًا، وهو يخوض سباقًا مع الزمن، ثم رفع بنطاله قليلا، وبلل قدميه بمياه البحر ما إن حطت قدماه شاطئ يافا لأول مرة في حياته، وزارته سعادة لا وصف لها؛ يحمل معه هموم، وذكريات أرض وشعب مغيبة منذ سبعة عقود، حتى نسي أطفاله قرب الحافلة من شدة شوقه.
كان البحر مستعدًا لسماع تلك الذكريات، متشوقًا لكل تفاصيلها الحزينة، هو الآخر في جعبته كلام كثير يريد بوحه، يرى كل شيء تغير من حوله، فقد ظل أمينًا على ذكريات "يافا"، يبعث خيوط الأمل في قلب كل وافد جديد من أهلها بأن هناك لقاءً حتميًا، بلا قيود، وحواجز، وتفتيش، "آه.. لو باستطاعته لفظ كل غريب" غلبته تلك الآهات.
ثم غرس يديه بالمياه ورشق بها وجهه، فعانقت قطراتها حنينه إلى "يافا"، لا يصدق أن أمنيته بهذا اللقاء تحققت، وأنه أمام سحرٍ كان يراه في الأحلام ويسمع عنه في ذكريات المهجرين، يطل من ذكريات الماضي: "أحقًا حرمنا؛ هذه العروس ..! ".
تلك اللاجئة المسنة؛ التي ترتدي ثوبا تراثيًا أبيض يزيد بهاءه خيوط الزخارف الحمراء؛ تقدمت "الختيارة" بخطوات لهفتها، فاردة يديها كطائر يعانق الحرية لأول مرة في حياته، كانت في لهفة لمعانقة "يافا"، لسكب دموع الغياب، لإلقاء وابل من العتاب على هذا الفراق، وللعن الاحتلال آلاف اللعنات.
خطواتها البطيئة في نظر من حولها كانت أسرع ما كان لديها للوصول إلى البحر، بعدما وضعت يديها وحملت مياهًا سرعان ما تسربت من بين أصابعها، فأعادت غرف المياه مرة أخرى، وفردت يدها للأسفل وهي تتأمل في قطرات المياه التي تنزل من يديها واحدة تلو الأخرى تلاشى المشهد بسرعة البرق؛ عادت بالزمن لطفولتها، تبكي 72 سنة لم تر فيها البحر.
الفرصة الوحيدة
من إحدى فتحات جدار الفصل العنصري، في طولكرم؛ وجد أنس شاهين وهو مدرس من محافظة نابلس، ثغرة ثقبها شبان في قلب الجدار، فكانت – رغم خطورتها – فرصته الوحيدة التي يبحث عنها، حفزه على خوض "غمار المغامرة"، غياب أي من جنود الاحتلال عن المكان، لكن إن: " فشلت المحاولة أو كان هناك كمين فحتمًا سيدفع ثمن ذلك، إما بالضرب، أو الأسر" .. كان مقتنعا بذلك.
صوته هنا؛ يشبه صوت فرحة شخص أسير رأى الحرية بعد سجن طويل، ينبش بتفاصيل المغامرة من بدايتها من على خط سماعة "الهاتف" تسمع صوت الموج: "دخلنا عبر الثقب في الجدار، مع أطفالي وعائلتي (...) هدفت أن يعرف أطفالي يافا، التي لم أزرها قط، وعمري الآن طرق الـ37 عامًا .. بذلت محاولات عديدة لكني لم أستطع زيارتها، لذلك دخلت فتحة الجدار ومستعد لكل الاحتمالات حتى السجن أو الضرب".
وصلت الرحلة التي انطلقت بالحافلة الساعة السابعة صباحًا، بعد ساعتين ونصف شاطئ يافا، وبين انطلاق الرحلة ونهايتها؛ كلام كثير يبوحه لنا: "في البداية رغبت الدخول إلى قلب يافا القديمة، كوني مدرسا وأشرح للطلاب عن تاريخها، دائما أراها في الصور ولم أدخلها، إلا أننا ذهبنا للبحر، وأمضيت أجمل يومين في حياتي فيها".
أما في وصف سحرها؛ احتار من أين يبدأ، تردد صوته كثيرًا هنا: "شعور لا يوصف، لما تدخل يافا، تلامس شاطئ بحر لم تره قط، خاصة أننا في الضفة لا نرى سوى البحر الميت".
لكن المشهد المحيط حوله ترك في قلبه غصة مترعة بحزن أسود: "تشعر هناك؛ أنك تدخل على أرض ليست أرضك، كل شيء حولك تغير من ناحية السكان حولك ترى إسرائيليين أجانب، تساءلت في نفسي: "كيف تنازل عنها المفاوض.. بلادنا جميلة، بل جنة".
على شاطئ البحر، قطع شاهين عهدًا للبحر أن يعود ليافا، وينقب في شوارعها وتراثها عن ذكريات الماضي، وحضارة يحاول الاحتلال طمسها، العهد هنا؛ أنها لن تكون نهاية محاولات العبور إلى قلب يافا، فلها لديه مساحة تستحق "المغامرة" وخوض غمار رحلة محفوفة بالمخاطر.
سبقت تلك المحاولة الناجحة محاولة أخرى لم يكتب لها النجاح، فيها تفاصيل أخرى، يروي "كان يوم الثلاثاء؛ حينما وصلت مع عائلتي عند الجدار قرب طولكرم، نتحسس أي ثغرة للعبور إلى يافا، لكن جنود الاحتلال أطلقوا علينا رصاص المطاط وغازًا مسيلا للدموع؛ فعدت لقريتي، وفي الطريق احترت في الرد على سؤال طفلي الصغير: "ليش اليهود رجعونا .. ليش الجندي ما خلانا نفوت للبحر".
وقتها تزاحمت كل كلمات القهر في صوته: "البحر يابابا؛ سرقه منا الاحتلال؛ عشان هيك منعونا نفوت عليه".
لكن كان وعد الأب لطفله أكبر من هذا المنع: "الأسبوع الجاي؛ راح نحاول نروح على البحر".
أسفل قدمه، بجانبه، في هوائها، ومائها، وترابها، عبر شاهين بخياله إلى الصور القديمة، وكل ما عرفه عن يافا، يتذكر هذا المرفأ "لما احتل وهجر أهل يافا"؛ يقطر صوته بالأسى، ويمتزج بالحزن، والقهر بالعامية: "لما تنزل على البحر تشعر بحقيقة أنه هون كان اجدادنا، أنها هذه أرض خلقت للفلسطينيين".
صورة المجازر
محمد نجم؛ يقف أمام البحر متأملاً في مياهه المتلألئة مع أشعة الشمس، في تلاطم الأمواج مع الصخور؛ شعر أن البحر يبكي وود لو كان هذا البحر رجلا ليقبله بين وجنتيه، وكأنه أسير قد فقد أهله على مدار أكثر من سبعة عقود، ولسان حاله يقول: إن المحتل والغريب هو عابر، وأنه "مشتاق لأهله شوق الغريب لرؤية الأوطان".
انطلقت رحلة الشاب نجم من جنين عبر فتحة في جدار الفصل العنصري بالقرب من قرية برطعة، وهنا تفاصيل أخرى: "ركنا مركبتنا هناك، وكانت الحافلة تنتظرنا في الجانب الآخر؛ انطلقنا إلى مدينة القدس للصلاة في الاقصى وبفضل الله تمكنا من اجتياز تقييدات الاحتلال على البوابات، ومكثنا هناك حتى بعد صلاة الجمعة، ثم أكملنا طريقنا الى يافا".
" مررنا عبر الطريق بقرى فلسطينية مهجرة مثل قرية الطنطورة، وقرية سيدنا علي إلى الشمال من يافا، ومررنا على اطلال قرى دير ياسين و"عين كارم" المهجرتين غربي القدس " .. رغم أنه كان يرى الصورة ملونة أمام ناظريه؛ لكن الذاكرة كانت تسحبه إلى "الأبيض والأسود"، والمجازر التي ارتكبت هنا، سرح في خياله، لصوت المدافع، وصراخ الهاربين، وأشخاص يعدمون.
خرج إلى واقع مرير آخر بعدما وصلت الحافلة أرض يافا، عانقت أشواقه المدينة، مستنشقًا هواءها؛ لأول مرة رأى مدنًا تبكي، رأى ذلك في تلك المآذن التي تشكو غربة أهلها؛ وآثار بيوت مهجرة؛ حتى الصخور هناك؛ شاهدة على هذا البكاء، راوده شعور محزن هنا: "تشعر بالظلم والقهر، الغريب صار ابن بلد، وأهل البلد يدخلها كزائر لبضع ساعات يمر مرور كرام".
التغييرات، التهويد، "أكبر من أن توصف".
لأول مرة رأى محمد بحر يافا منذ ١٩٩٩، اي قبل سنة واحدة من اندلاع انتفاضة الأقصى، "أحسست أن البحر هو بحرنا الذي حرمنا ولا زلنا نحرم منه بفعل الاحتلال وإجراءاته".
مكث ومن معه قرابة الساعتين على مرفأ الصيادين في يافا القديمة، حيث إن شواطئ السباحة في المدينة مخصصة لليهود، ومحروسة بدوريات شرطة احتلالية تمنع أهالي الضفة الغربية من النزول فيها.
مسار رحلتهم تغير تماما، يقول: "كان المخطط أن نصلي العصر في مسجد حسن بك وان نمر على مسجد قرية سيدنا علي المهجرة، ولكن تفاجأنا بالإجراءات الاحتلالية المشددة في هاتين المنطقتين، لذا قررنا أن نبتعد باتجاه المرفأ حيث لم يكن هناك دوريات".
تشبه هكذا لقاءات، لقاء أهل أسير يقبع خلف قضبان الاحتلال؛ يقطعون مسافات طويلة، يتحملون مشقة السفر، لأجل زيارة محددة، سرعان ما تخرجهم من أحلامهم كلمات السجان: "انتهى موعد الزيارة!"، كما فرقت شمس الغروب هؤلاء عن "عروس البحر" حينما جاء عناصر من شرطة الاحتلال يبحثون عنهم، وقتها حملوا أمتعتهم ورحلوا من المكان؛ وتركوا أشواقًا لم تبرد بعد أمينة "في البحر" المكان الوحيد الذي لم يشعرهم بالغربة.