فلسطين أون لاين

الأسر العربية الحاكمة.. أنا الدولة والدولة أنا

منذ أن بدأت حركة الاستقلال للدول العربية بعد الحرب العالمية الأولى، ورغم الدعوات الفكرية التي صاحبت حركات التحرر هذه من قومية وعلمانية واشتراكية وماركسية ودينية، أدت النتيجة الفعلية لعملية التحرر الوطني التي جاءت ثمرة لثورة شعبية أو مسلحة أو اتفاق مع المستعمر، إلى وجود أسر حاكمة لهذه الدول، شكل الحكم فيها ملكي أو جمهوري، وقد تبع ذلك أن ارتدت هذه النظم إلى مراحل تاريخية كانت فيها شخصية الحاكم تعد هي الدولة وتذوب الدولة في شخصية الحاكم، وقد عبر عن ذلك الواقع المقولة المشهورة: "أنا الدولة والدولة أنا"، المنسوبة لملك فرنسا لويس الرابع عشر الملقب بالملك الشمس، الذي حكم فرنسا مدة 54 عامًا من 1661م حتى 1715م، وتربط هذه المقولة بين مفهوم الدولة والملك في إطار الملكية المطلقة، وتحولت بعد ذلك مثالًا للاستبداد السياسي، ورغم كل محاولات الأسر الحاكمة العربية لتسويغ سبب وجودها في الحكم بمصلحة الشعوب العليا، وإضفاء نوع من الشرعية عليه، فشلت في التعبير عن إرادة الشعوب وطموحها، "بل أصبحت هذه الأسر تعبر عن نقيض تطلعات الشعوب وآمالها"، حتى أصبح من سمات الحكم العربي اختلاف السياسات الرسمية عن نبض الشعوب وتوجهاتها، وإن كان يحسب للملك لويس الرابع عشر أنه جعل فرنسا القوة العظمى في أوروبا، وجعل الثقافة الفرنسية الثقافة المهيمنة على كامل أوروبا، فإن الأسر الحاكمة العربية رغم كل ما تمتعت به من سلطات مطلقة لم تورث شعوبها إلا الفقر والتخلف والتبعية بأسوأ أشكالها.

ورغم كل ما قيل عن الملك لويس الرابع عشر يحسب له أيضًا كلمته وهو على فراش الموت: "أنا أمضي أما الدولة فتبقى".

لذلك لم يكن غريبًا والحالة هذه بعد مرور نحو 300 سنة على رحيل لويس الرابع عشر، ورغم التطور الهائل للنظم الدستورية في الغرب، وما واكبه من حكم ديمقراطي مستقر يعتمد على التداول السلمي للسلطة وسيادة القانون والفصل بين السلطات والشفافية والمحاسبة والانتخابات النزيهة، أن الأسر الحاكمة العربية ما زالت تعيش حقبة أنا الدولة والدولة أنا، حتى إن بعض "الدول" التي تحكمها بعض الأسر العربية، ويعترف بها النظام العالمي ويقبلها عضوًا في الجمعية العامة للأمم المتحدة، لا يوجد لها دستور حتى يومنا هذا، ولا يوجد لديها أي شكل من أشكال الانتخابات، حتى للبلديات والهيئات الحلية.

ورغم ذلك نجد دعمًا منقطع النظير من العالم الغربي لها، فتُنسج معها العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية ويهيئ لها سبل الاستقرار السياسي، في حين تحارب بشدة براعم الديمقراطية المتولدة من بقايا بذور الربيع العربي، ربما تكون هذه المحاربة في ظاهرها على يد الأسر الحاكمة العربية التي استشعرت الخطر الوجودي على عروشها عقب موجة الربيع العربي، ما جعلها تكن العداء المطلق لهذه الثورات وتحاربها بكل الوسائل المتاحة من مال وإعلام وعسكر وأعمال استخبارية قذرة، ولكن محركها الأساسي والداعم لها من خلف الستار هو النظام الغربي، وما أعلنته صحيفة غارديان قبل يومين دليل واضح على مدى قذارة التآمر الغربي الخليجي على الربيع العربي، وقد أصبح السبب جليًا لكل ذي بصيرة، إذا التقت المصلحة الشخصية للأسر العربية الحاكمة ببقاء حكمها وسيطرتها واستبدادها، مع مصلحة الغرب في نهب ثروات الشعوب العربية ومقدراتها بالتنسيق مع هذه الأسر مقابل السكوت عنها ودعمها.

ولذلك ليس غريبًا أن تقدم الأسرة الحاكمة للإمارات على ما أقدمت عليه من إعلان اتفاق سلام مع العدو الصهيوني وهي التي لم تحاربه يومًا، وذلك لتستمد منه القوة اللازمة للبقاء أسرة حاكمة ولا أظن أن حاكم الإمارات يلقي بالًا لأي تيار أو رأي معارض؛ فهو لا يزال يعيش حقبة أنا الدولة والدولة أنا بكل ما تعنيه هذه الكلمة من التحكم المطلق بمقدرات الدولة وسياساتها، بغض النظر عن رأى الشارع الإماراتي ومن بعده الخليجي والعربي، وبغض النظر عن أي قيم إسلامية أو نخوة عربية أو شعور إنساني نحو شعب عربي مسلم اقتلع من أرضه وارتكبت بحقه المذابح والمجازر على مدار تاريخ هذا الاحتلال الأسود، فالمهم لدى هذه الأسرة أن تبقى في الحكم، ولذلك تطوع لها نفسها أن تمارس كل الموبقات السياسية والدينية في سبيل هذا الهدف، اعتقادًا أنها تمثل الدولة فإذا سقطت سقطت الدولة كما تظن، ولما كان الأمر كذلك فكل مقومات وموارد الدولة هي ملك شخصي لهذه الأسر، تتصرف فيها وفقًا لشهواتها وكما يملي عليها السيد الحامي، وقد شهد العالم كله هذا المشاهد المخزية لزعماء خليجيين وهم يقدمون فروض الولاء والطاعة للسيد الحامي ويدفعون ثروات طائلة من أموال الشعب عبر شاشات التلفزة العالمية لهذا السيد، في مشهد ربما لم يسجله التاريخ من قبل، فالخيانات كانت دائمًا وأبدًا تنسج في الخفاء وتنفذ في الظلام البهيم، ولكن في هذا الزمن العربي الرديء أصبحت الفاحشة السياسية تمارس على الملأ دون مواربة.

ولكن ما لم تفهمه هذه الأسر الحاكمة أن عهد استبدادها قد شارف على نهايته، ولن تغني عنها مؤامراتها التي تشبه رجفة الموت في وقتها، بل ستزيد من فاتورة حسابها لدى الشعوب التي لن ترحمها، وسيأتيها هلاكها من حيث جبروت استبدادها وتسلطها، وما أحداث الباستيل والثورة الفرنسية وأسبابها منها ببعيد، وفي التاريخ عبرة لمن يعتبر.