فلسطين أون لاين

يروي لـ "فلسطين" أسرار حرفة متوارثة عبر العصور

تقرير لإبراز تراثه.. "فياض" بارع في صناعة السيوف بالمواصفات القديمة

...
٢٠٢٠٠٧٠٤_١٨٠٥٥٨.jpg
غزة/ يحيى اليعقوبي:

 

تناول سيفًا معلّقًا على الجدار واستلّه من غمده، مرر النصل بهدوء بين أصبعيه وشفرته المسننة تلمع في حضن كفة يده؛ مجسدًا بهذه المهنة أصالة الماضي، يحضرك هنا ما خطه الشاعر "أبو تمام": "السّيف أصدق إنباءً من الكتب.. في حده الحدّ بين الجدّ واللّعب؛ بيض الصّفائح لا سود الصّحائف في .. متونهنّ جلاء الشّك والريب؛ والعلم في شهب الأرماح لامعة ً.. بين الخميسين لا في السّبعة الشّهب".

بداخل غرفة صغيرة مصنوعة من الأخشاب تضم بعض الآلات لطرق وحني الحديد وسنه، وأخرى للخرق، وبعض أدوات الطرق وسط أرض عائلته الزراعية، يمارس محمود فياض مهنة صناعة السيوف.

 مع كل طرقة على نصل السيف يرتد صدى الصوت إليه  وسط مكان هادئ، تطل نافذة الغرفة الخشبية على الأشجار المزروعة بأرضه والتي بدت وكأنها تتراقص مع الرياح فتزيد المشهد جمالا أمامه، منظر لا يمل فياض تأمله كلما شعر بالتعب أو الملل، حينما يأخذ قسطا من الراحة خلال عمله.

شرق بلدة القرارة بمحافظة خان يونس، وبين أرض زراعية بداخل منزله أنشأ محمود فياض معملا لصنع السيوف ومعرضًا لإظهار ما ينجزه.

في هذا المكان يتشبث محمود فياض بأصالة الماضي؛ محافظا على موروث مهنة قديمة عمرها آلاف السنين، كان الموت يلمع على شفرة  تلك السيوف إن أتقن الصانع صناعته، وتلمع الدماء على حده في المعارك، وكانت أكثر أداة قتال فاعليّة ورواجًا، إلا أنها اليوم أصبحت تعلق على الجدار للزينة، والعرض وتأريخ هذه المهنة.

 على جدار المعرض يقابلك سيف مزخرف مطلي بالنحاس من الخارج، تزينه نقوش زخرفية يدوية ومقبض من عظام الحيوانات، تكمل خرزة حمراء في وسط الغمد أناقته، بجانبه خنجر على نفس الشاكلة، ثم ترى أربعة خناجر أخرى متشابهة التصميم ذات اللون النحاسي معلقة على الحائط بداخل صندوق زجاجي معلق كذلك مزينة بأحجار كريمة.

إلى الأمام سيف مجرد من غمده معلق على الحائط، وآخر لونه نحاسي، بجوارهما سيف آخر يزينه القماش الأحمر المضاف إلى الغمد، تمرر نظرك لترى سيفين فضيين معلقين فوق بعضهما بسلسلة تأخذ شكل ميزان، بواجهة المعرض تزيد الجمال هنا مجموعة خناجر وشباري باللونين الفضي والنحاسي.

أجزاء السيف

أخرج فياض السيف من غمده مرة أخرى، رفعه للأعلى وهو يمرر نظره على نصله معجبا بما صنعه، يبدأ حديثه لصحيفة "فلسطين" عن مكونات السيف قائلا: "يتكون من نصل السيف ويجب أن يكون من حديد الفولاذ الصلب والقوي، ومن الغمد أو الجراب، وواقي اليد أو المقبض ونسميه أيضا "برشق" لحماية اليد من الضربات".

يضع يده على المقبض متبعا كلامه: "المقبض يصنع من قرن حيوان، غالبا الجاموس أو عاج الفيل، أو خشب "الزان"، أما الغمد فيصنع من الداخل من الخشب ثم نقوم بعمل كسوة له من الخارج  من الحديد أو الجلد، وهناك سيوف يتم زخرفتها بحجر كريم أو مرجاني، أما نصل السيف فيصنع من الحديد الصلب والفولاذ".

"هذه حرفة يدوية قديمة، صناعتها تتم بنفس المراحل القديمة، لكن في القدم كانت الأدوات المستخدمة في الصناعة بدائية أكثر، قد تأخذ صناعة السيف أو الخنجر مدة أكبر، ورغم تطور الأدوات اليوم إلا أن الحضور اليدوي في صناعة السيوف كبير جدًّا".. يضع نقطة النهاية هنا في حديثه عن مراحل الصناعة.

أعاد النصل إلى غمده، معلّقًا على الحائط، وتناول خنجرًا نحاسيًّا واستلّه، ثم علّق وبدا الصانع ملمًّا بتفاصيل مهنته: "الخنجر العربي قريب من السيف، بشكل مصغر، على عكس اليوم تجد شكل بعض الخناجر حديثا، لا يخص التراث العربي الإسلامي أو العثماني".

يمرر يده على نصل الخنجر متابعا حديثه هنا: "هذا خنجر مسنون آخذ حدة عالية جدا بنفس المواصفات القديمة، ومقبضه عظم".

خلال جولتك بالمعرض، ينتقل نظرك إلى مجموعة "شباري"، وهي مصغرة عن الخنجر متراصة بجوار بعضها بأشكال مختلفة وألوان تجمع مزيجًا بين الفضي أو النحاسي أو كلاهما معًا، تسمى "شباري" منها ما هو بحجم كفة اليد، بعدما تناول فياض واحدة قال وهو على ذات الهيئة: "لو عدت قبل عشرات السنين، فإنّك ترى أن معظم من عرفوا "الشباري" كانوا يحملونها على جانب الجسم كوسيلة دفاع عن النفس، وهي تخص  تراث البادية، يعتز بها البدو، وكانوا يستخدمونها في جميع استخدامات الحياة اليومية، وفي تقطيع اللحوم أو ذبح الجمال".

تمرر نظرك بين تلك "الشباري" تجد إحداها منقوشة بزخارف إسلامية، وأخرى بلون فضي يكسره قطعة نحاسية دائرية منحوتة ملصقة على وسطه لقبة الصخرة وخارطة فلسطين ثم خط نحاسي يفصل بين المقبض والغمد، تزين المقبض منحوتة نحاسية لقبة صخرة أخرى، ثم يسحبك النظر عند واحدة أخرى مزخرفة بأشكال الزخرف العثماني.

يمسك فياض إبرة مخصصة لثقب النحاس والنحت، ويطرق بحركات دقيقة وبطيئة مكونا من تلك النقاط الصغيرة أشكالًا لورود مزخرفة أو تقاطعات ومربعات متداخلة ومعقدة تحتاج وقتًا لإنجازها.. هكذا يزخرف السيوف والخناجر.

في الأثناء تلمح ختم فلسطين على  الشباري، يعلق فياض: "طبعت اسم فلسطين بثلاث لغات لأن كل دولة تضع رمزا على بلد المنشأ، فمثلا في السعودية يضعون سيفين ونخلة، وفي الأردن التاجي الملكي".

يضم قبضة يده بعد أن هزها عدة مرات، زاد بلهجة عامية: "لما بدك تشتغل شيء يدوي بدك تبرز تراث بلدك".

نصل "الشبرية" بغض النظر عن حجمها فمعروف شكلها، حيث يشير إلى شبرية من صناعة أردنية معلقة بين مصنوعاته وتبدو أقل جودة، مردفا: "أضعها هنا لإعطاء حيز للمقارنة من قبل الناس والوافدين".

أمسك واحدة أخرى تبدو بلا لمعة، لكن لم يكن ذلك اتّساخًا، فياض يشرح السبب: "هذه بلا لمعة لأنك تجد من الناس من يحب الأجواء القديمة بكل تفاصيلها".

مواصفات خاصة

حسبما يذكر فياض، فإن للسيف مواصفات خاصة، وهي متعددة الأحجام، لكن يبلغ متوسط طولها من بين 90-120 سم، والسيف الذي كان يحمله الفارس أقل طولا من سيف المشاة، مضيفا: "كحرفي يجب أن تنظر لعمل الآخرين وتقارنه مع عملك، وتكون مطلعا على تاريخ المهنة ولديك معلومات كبيرة عن كل تفاصيلها  (...) ما قمت بصناعته بجودة عالية يضاهي العمل الموجود في الدول العربية".

أمسك سيفا مرة أخرى، منتقلا للحديث عن مراحل صناعته، فيقول: "تبدأ باختيار الحديد الصلب وقد يأخذ مرحلة طرق الحديد وضربه وقصه أو حنيه، وهناك سيوف منحنية بشكل كبير وهذا الانحناء يتم بتسليط النار على الحديد الصلب، بعد مرحلة تنعيم نصل السيف وسنه، وحينما تنتهي من النصل، تدخل على مرحلة إضافة فرز أو نقوش عليه أو تركه فارغًا، ثم مرحلة تركيب المقبض سواء من العظم أم الخشب ثم تدخل على مرحلة الغمد".

يضع حد السيف على الطاولة ويضغط عليه قليلًا لينحني نوعًا ما يمينا، ثم يطرق بيده على جانب النصل، مردفا: "قوة السيف ترجع إلى طبيعة المعدن المستخدم، بعض السيوف قد تنكسر بالضغط لأن المعدن المستخدم في صناعته فقط خاصية الصلابة، وهذا يرجع إلى خبرة الصانع".

كم تستغرق وقت صناعة السيف؟ لم يتأخر بالرد: "أقل سيف يستغرق أربعة أيام وهناك سيوف تحتاج إلى شهر من العمل، أما الشباري فستغرق صناعتها من يوم إلى أسبوع حسب الزخارف والنقش المستخدم".

لكن فياض يواجه صعوبات، أولها تتعلق بمدى قبول المواطنين لأسعار السيوف التي حددها بنحو 300 دينار.

بدأ فياض المهنة قبل 10 سنوات كهاوٍ يحب اقتناء السيوف، ثم بدأ العمل بها تدريجيا حفزه تشجيع الناس حوله له، ورغم أنه درس بكالوريوس تاريخ إلا أنه وجد نفسه في صناعة السيوف، وربما تقاطعت مهنته التاريخية مع مساق تخصصه وكأنه بهذه المهنة يغوص في تاريخ السيوف، غارقًا في تفاصيلها.

 

 

 

 

 

المصدر / فلسطين أون لاين