"سأنتظرك فالعمر يمضي وإنه يمضي معك، رغم البعد فأنت الأقرب مني"؛ حروفٌ رقراقةٌ قالتها الأسيرة المحررة بيان فرعون بهمسٍ دافئٍ مُحلِّقة بأجنحةٍ منسوجةٍ من بقايا الصبر الذي يجمع شوقها مع خطيبها الأسير أحمد عزام.
بيان فرعون (26عامًا) من بلدية العيزرية شرق القدس المحتلة، عانقها الفرح في 27 مارس/ آذار 2015، حينما عُقد قران قلبها على الأسير أحمد، لكنَّ فرحة الفلسطيني دائمًا مؤجلة، ثمة منغصات تخترقُ حلاوة السعادة في عينيِّ بيان، حينما أسر الاحتلال خطيبها في ذات العام.
إن بعضَ نوباتِ الشوقِ "قاتلة"، كيف يُمكنُ للأسيرِ أن يكونَ مُتزنًا أمام هالةِ الحنين التي تُحيطه، كيف يُمكنُ أن يكونَ صامدًا عندما تنتفض المشاعر من غفوتها وتُعلن ثورتها على جحافل السلاسلِ التي تُكبله.
"البعيد عن العين بعيد عن القلب"، بهمسٍ دافئٍ تقول بيان لصحيفة "فلسطين":" لم أصدِّق هذه العبارة، لأنه كلما تباعدت الأجساد، اقتربت الأرواح أكثر، فكنت ألتقي دائمًا أنا وأحمد على ضفاف الدعاء، وفي منامي أراه، وطيفه الذي يُحيطني من كّلِّ جانب".
وبعد مرورِ عامين من الشوقِ التي تهبُّ رياحه في وجه بيان، أسرها الاحتلال في 11 مارس/ آذار2017، فخارطةُ العمر تؤكدُ للأسير أنه في طرْفٍ يُمكنُ الوصولُ إليه، غيرَ أن مجيء قواتِ الاحتلال له محتملٌ في كُلّ حين.
وحدهم المحبون من يصدرون تنهيدةً من نوعٍ آخر لا تُشبه تنهيدات غيرهم أبدًا، سيبتسمون للواقعِ رغم شراسته، سيحاولون أن يخترعوا عالمًا بعيدًا عن الحياةِ التي تزدادُ ألمًا وحرمانا، ربما يفشلون مرةً وينجحون ألفًا، سيحاولون أن يكونوا من الكاظمين الغيظ.
"أسرك كان كـانتزاع الروح من الجسد" تصفُ بيان مشاعرها ورسالة أحمد الورقية بين يديها: "كانت أكثر عبارة تأثرت بها في الرسالة؛ لأنني عرفت حينها حجم الوجع الذي أصاب أحمد عند أسري، لأن الجميع يعلم أسر الفتاة صعب".
بصوتها تسردُ عذابات الشوق: "الأسر ضريبة لا بد أن يدفعها الأحرار، كانت أرواحنا كنسمةٍ في الفضاء، ظنوا بتكبيل أجسادنا أن يأسروا الروح أو الفكرة، لكنَّ الأرواح جنود مجندة، كانت روحي تلتقي دائمًا بأحمد، وكانت تأتيني رسائله مثل نسمة باردة على قلبي، كوردةٍ حانية، ويدٍ تنتشلني من عذاباتِ الأسر، وتروي ظمئي، وأستمد منها القوة".
الصوتُ الخافتُ الذي تحدثت فيه بيان بالكاد أن يُفهَم حينما قالت خجلًا:" حروف رسائل أحمد كان ينبض منها الشوق، كأنني احتضنه من خلال كلماته، وحدها حروفه كانت تدفعني إلى الحياة، والأمل، وتزيدني صبرًا".
في صباحِ 10 يوليو/تموز2020، أشرقت شمس حرية بيان بعد أسر دام 40 شهرًا، فالفرحةُ مؤجلة إلى حين تحرر خطيبها أحمد من سجون الاحتلال.
تسردُ بيان "أحمد يظلني دائمًا، ويرافقني أينما كُنت، فالبعيد عن العين قريب جدًّا من القلب، يكون في ثناياه، فهو نور بصري، ونعمةٌ أشكر ربي أن رزقني أحمد".
كم قاسيةٌ الخطواتُ عندما تُبعدهم وتطيلُ بينهم المسافات.
وحدهم المحبون من تذوبُ أوجاعهم بين شرايينِ الشوقِ التي تلهثُ خلف أمنيةٍ بأن يزولَ هذا القيد ويطولَ العناقُ على رصيفِ روحٍ لا تجفُّ منه ينابيعُ الحب.