حظيرة كبيرة خاوية من الخراف والعجول؛ سوى بقايا "وبرها وشعرها" متناثر على الأرض، لم يتبقَ إلا ثلاثة خراف، يفتح أبو محمد أبو وردة صنبور المياه ويضع يديه تحته وما أن تجمعت المياه بين يديه رشق بها وجهه ليطفئ حرارة الأجواء، وعاد الكرة، ومن ثم توضأ بعدما نفدت جميع الخراف التي كانت لديه، وجلس مرتاح البال.
الخمسيني أبو وردة الذي يُربي الخراف والأغنام في حظيرة خاصة خلف منزله بجباليا شمال قطاع غزة؛ بينه وبين الخراف "عشرة عمر" يعلم كل شيء عن طرائق تربيتها، والتحضير لموسم الأضاحي.
قبل أيام كانت هذه الحظيرة تعج بالمواطنين لشراء الأضاحي حتى نفدت، لكنه يرجع إلى التحضيرات التي تسبق الموسم: "نبدأ بجمع الأغنام وتجهيزها ورعايتها وإطعامها، نعاين المرضى منها ونعالجها، نطعمها مرتين صباحًا ومساءً بخليط من الذرة والشعير والعلف".
"لدينا خبرة كبيرة، اكتسبناها من كثرة الخسائر التي تعرضنا لها في الأساس، فتعودنا أن نربي ونعالج بأنفسنا، والخبرة في التربية مهمة لأنك يجب أن تعرف نوعية الخراف التي تربيها وأساسها وهل حصلت على تطعيم أم لا، ثانيًا نولي اهتمامًا كبيرًا برعاية الخراف الصغيرة بعد الفِطام، لأنها تكون ضعيفة فنعطيها أعلافًا بها بروتينات وفيتامينات لتقويتها بعد شهرين إلى ثلاثة أشهر من الولادة، ونستمر في العناية بها حتى يصبح وزنها 60 كغم".. قالها بعدما أخذنا في جولة في حظيرته.
يضيف: "اللي بربي.. بربي الخرفان زي أولاده؛ لأنها دمه وشغله ومحياه"؛ وفق تعبيره.
أنواع الخراف
يشرح الفرق بين أنواع الخراف الموجودة أمامه: "أغلاها العساف، وفي هذا النوع يموت 30 رأسًا من كل 100 رأس لأنه لا يحتمل الحرارة والمرض، وهذا النوع أنتجته دولة الاحتلال عبر تهجين أنواع وأجناس عدة من الخراف البلدي الكنعاني والقبرصي وخراف ألمانيا، وأنتجت خروفا يعطي حليبًا ولحمًا، وسعره 5 دنانير للكيلو الجرام الواحد، واسمه بالعبري "مخلاعا" ويتميز بلونه الأبيض وقلة الصوف والفرو ووجود ذيل له وليس "ليّة" لتوزيع الدهون بجميع أجزاء جسمه".
يقع نظره على خروف أكبر حجمًا، يستمر في شرحه: "هذا البلدي يسمونه الخروف "أبو الليّة" ومن أسمائه "التركماني أو الكنعاني"، وهذا من عمر الكنعانيين يرمز إلى الحضارة الفلسطينية ويعكس هويتها، حافَظَ على سلالته الأصلية، وهو يتميز بدمه القوي وتحمله للأمراض بخلاف العساف، حتى إن اللَّحام لا يذبح إلا البلدي، لأن الدهون تُخزَّن فقط في ليته بمؤخرة جسمه وسعره مثل العساف 5 دنانير للكيلو جرام، أما الليبي فهو يشبه البلدي لكنه مليء بالدهون".
"أتدري؟".. يقول: "الموسم فاجأ الجميع، قيل إن هذا الموسم ضعيف، لكننا حسب تقييمنا نراه أفضل المواسم على الإطلاق، وربما بيع فيه نحو 60 ألف رأس خروف وعجل، والسبب أن فاعلي الخير في الخارج لا يستطيعون ذبح الأضاحي بسبب فيروس كورونا، فيرسلون المال لأقاربهم في غزة لذبح الأضحية بسبب خلو القطاع من الفيروس".
في مشهد مغاير أمام قفص لبيع الخراف والأغنام بسوق فراس بمدينة غزة، وبعد ساعات من الانتظار، جاء زبونان ليتفحصا الخراف، بسرعة ولهفة نهض البائع من كرسيه مُرحِّبًا بهما "أهلا وسهلا.. عنا كل أنواع الخرفان" وزاد في ترغيبه لهما: "ما بنختلف على السعر"، مثلما يستقبل المضيف ضيفًا انتظره طويلًا كان حاله.
هناك يضع محمد حسان قفصًا متنقلًا وضع به نحو 30 رأساً من الخراف والأغنام (الجدي)، منذ ساعات كان ينتظر قدوم أي مشترٍ، متواري النظر عن أشعة الشمس الحارقة في السماء بقبعة وظل جدار الحائط، لكنه لم يمنع حرها من الوصول إليه.
المواطن الأول يبحث عن أربعة أضاحٍ من الخراف، يضغط بيده فوق ظهرها بقوة فتغوص في الصوف ، بالآلية نفسها ينتقل إلى وسط ظهرها وأجزاء أخرى، يبدي حيرة في أخذ قرار الشراء من عدمه، بدا واضحًا عليه وهو يشد شفتيه لجانبه الأيسر مغمضًا عينيه قليلا، صديقه الذي يرافقه خرج في نوبة ضحك، يسأله: "من وين بتفهم فيهم أنت"، فطلب منه الصمت وعدم إخراجه من تفكيره: "اسكت شوي .. خلينا ننقي شيء مناسب".
بجانبهما لجأ الغزي زكريا السرحي إلى طريقة أخرى لمعاينة الخروف؛ جثا على ركبتيه بعدما دنا من أحدها ولم يكن كبيرًا، وحمله بين ذراعيه، ومن ثم هزه عدة مرات، أومأ لمرافقه بعدم مناسبته بعدما رفع حاجبيه للأعلى وأنزلهما ورفعهما كعلامة رفض صامتة، وبدأ يبحث عن خروف آخر يناسب حجم مقدرته المادية.
"لازم يكون نظيف فهوش مرض حتى نوزعه على الفقراء والمساكين" عن هذه المواصفات يبحث السرحي كما يحدثنا، ورغم أن الخراف الموجودة داخل القفص غير مريضة إلا أن ثمنها أعلى من مقدرته.
هنا كان الأمر مختلفًا، طلب الوافد الجديد فتح فم الخروف، من هذه العلامة استطاع معرفة عمره بستة أشهر وبدأ بخوض غمار تفاوض مع البائع لشرائه.
جاء صاحب الخراف يجر كيس خيش أبيض، غرس يديه بداخله وأخرجها مثل كباش جرافة محملة بالشعير ورماها داخل المكان المخصص للأكل، ثم غرسها ثانية ورماها، وكرر المحاولة، هدأت الخراف وصمتت عن المأمأة المتواصلة التي لم تتوقف.
حسان الذي يبدو أنه جلس كثيرًا تحت أشعة الشمس، فقد تركت أشعتها بقعًا حمراء على وجهه لم تمنعها قبعته السمراء، يأخذنا بجولة فيقول بعدما أشار بيده نحو ثلاثة خراف مختلفة الأنواع تجمعت مصادفة بمكان واحد: "لدينا الخروف الأبيض (العساف) ويميزه وجود ذيل له، والخروف البلدي الكنعاني وله لية في مؤخرة جسمه، والخروف الليبي والذي يتشابه في الشكل مع البلدي".
يفصل أكثر بعدما أمسك بقرن أحدهم: "هذا بلدي ويعطي لحمة دون دهون لأنه يتغذى على العشب أو الشعير المخلوط بالذرة، أما الليبي فيعطي دهونًا لأنها جاءت مستوردة ويطعمونها العلف وهذا يزيد الدهون".
يلتفت بنظره نحو الأغنام، معلقا: "سعرها أغلى من الخراف".
يقول: "العمر المناسب للأضحية من ستة أشهر فما فوق، فينبت في فمها أسنان على اليمين وكذلك على الشمال، ولا يجوز البيع للأضاحي بأقل من هذا العمر أما العجل فيكون مناسبًا للأضاحي من عمر سنة فما فوق".
أضاف بعفوية: "الشغلة بتضلها أمانة في النهاية، لأن الزبون يبحث عن خراف جائزة للأضاحي تكون مكتملة خالية من العيوب".
كيف حال الموسم!؟ لم يطِل الرد وهو يفرد كفيه: "الحقيقة، الموسم ضعيف، مثل هذه الأيام نبيع خمسين رأسًا لكنني لم أبع منذ الصباح، ونتأمل مع صرف رواتب الموظفين أن تحرك السوق".
لموسم الأضاحي تحضيرات كبيرة يجب على المربي اتباعها، تبدأ قبل ستة أشهر "فش فيها نوم" كما يقول: "نحضر أغناما صغيرة لنربيها ونرعاها ونطعمها ونهتم بها (...) لدي هنا 30 رأسًا من الأغنام والخراف وفي البيت نحو 70 رأسا".
يبتسم: "هادي حقها ملايين (تعبير عامي) بدك تطعميها وتسقيها حتى تحصد ما زرعت".
ووفق تصريحات صحفية للناطق باسم وزارة الزراعة أدهم بسيوني السبت الماضي، فإن نسبة الإقبال على الأضاحي "جيدة" وقال : "وفرنا في أسواق قطاع غزة هذا العام قرابة 13 ألف رأس من العجول و30 ألف رأس من الأغنام ونتوقع استهلاك جميع هذه الكميات خلال الأسبوع المتبقي من حلول عيد الأضحى المبارك".
لكن بسيوني أشار إلى أن "ما قبل الثلاثة أعوام الماضية في ظل وجود انتعاش اقتصادي كان السوق بغزة يستهلك أكثر من 17 ألف رأس من العجول وأكثر من 30 ألف رأس من الأغنام".