في الرابع والعشرين من تموز قبل عامين، كانت لحظة اعتقالي، وفي السادس والعشرين منه قبل عام حانت لحظة حريتي، ولعلّي أداوم وقوفي على مشارف تلك التجربة، حتى والأيام تمضي بي بعيدًا عن زمانها وأمكنتها.
لن تغادرني تلك المشاعر التي رافقتني في لحظة الاعتقال الأولى وما تبعها، ولن أنسى وجع ذلك الانقباض في قلبي وأنا أودع عائلتي وأنتزع صغيري يحيى من بين ذراعيّ، حاملة بقايا رائحته ونظرة الذهول في عينيه، ثم أجتهد في تحييد مشاعر الفراق وتضميد أثرها، وأشحن روحي بما يحررها من الضعف، استعدادًا لمواجهة ما ينتظرني.
لم تكن التجربة في مجملها مجرد غياب أو تغييب قسري مدته عام، كانت إدراكًا لمعانٍ جديدة لكل شيء، للتعب والألم والاشتياق، للصمود والمجابهة، لمواجهة الذات أحيانًا، لتجاهل نداءات ضعفها حينًا، ومواساتها حينًا آخر، للوعي الذي ظلل مساحة شاسعة من قلبي وعقلي، لاكتساب تعريفات جديدة للنصر والهزيمة، والحرية والقيد، والإنجاز والإخفاق، والقوة والضعف، والثورة والسكون، والوفاء والخذلان.
لا يتعرف المرء إلى مجاهيل نفسه جيّدًا إلا إذا امتُحن، لا يعي مواطن ضعفها وقوتها، وانكسارها وشموخها إلا إذا ابتلي في حريته وصبره، وعند بعده عن أحبته، وفي موقفه من كل ما يمسه من أذى ومرارات، وفي تعامله مع احتياجاته الصغيرة إذا ما غدت حلمًا، وفي ردود فعله الأولى على كل الصدمات المختلفة وغير المألوفة، وفي مدى قدرته على إلزام نفسه بما عاهدها عليه.
ولذلك يظل السجن رحلة عميقة مع الذات، تتيح للمرء أن يرى نفسه من بعيد، ويراجع مسيرته الطويلة، فيقدّم لنفسه تقييمه ومراجعاته، وفي محرابها يعالج ما انطفأ من قناديلها، ويوقد أخرى جديدة، يطوف وهو بعيد بين وجوه عديدة، فيراها بعين مختلفة، يقبض على بعض ما كان يزهد فيه، ويزهد في بعض ما كان يسعى إليه إذا ما أرهقه سؤال الجدوى.
بين سجون عسقلان وهشارون والدامون ومحكمة عوفر تشكلت براعم التجربة، منهما ما اكتمل نموه فيها، ومنها ما ظل ينمو لاحقًا على مهل، ويلوّن لوحة المعاني بإضافات جديدة، تُؤلم وتُلهم وتُعلّم.
وحين حانت لحظة الحرية كانت ممتزجة بسيل من المشاعر المتناقضة، كان فرحًا متواضعًا وناقصًا، لكنه محفوف بخفق تلك القلوب الكبيرة والكثيرة التي ظللت مشهده، وحملت إليّ العزاء، والشعور بنبل التضامن الصادق.
بعد عامين على الأسر وعام على الحرية، أجدد شكري وامتناني لكل قلم وكل قلب وكل شعور صنع بتضامنه حالة دفء مختلفة قاومتُ بها برد الزنزانة، منذ أن كنت في غياهب تحقيق عسقلان، حين همس المحامي لي ذات محكمة وأنا في ذروة تعبي بحالة التفاعل والتضامن في الخارج، مع أنه قال لي أيضًا: "لكن كما تعلمين، كل هذا لا يؤثر في سياسات التحقيق هنا"، أومأتُ برأسي موافقة، في ظرف ما كان ليتيح لي الابتهاج بشيء، لكن قلبي ظلّ نديًّا، وناظرًا إلى تلك اللحظة الآتية لا محالة، حين أغادر كل هذا الظلام، مستقبلةً شمسًا جديدة.