إن سياسة التهويد التي تمارسها سلطات الاحتلال الإسرائيلي في المدينة المقدسة وصلت إلى قلب المسجد الأقصى المبارك، وما يشهده المسجد الأقصى المبارك في هذه الأيام من اعتداءات واقتحامات يومية، وتضييق واعتداء على المصلين والمرابطين والشخصيات الدينية والوطنية وسدنة الأقصى وحراسه، وذلك بمنعهم من دخوله واعتقال بعضهم ومصادرة هوياتهم، وبالمقابل السماح للمستوطنين باقتحامه وتوفير الحماية لهم، ما ذلك كله إلا حلقة من مُخَطّطات سلطات الاحتلال الإسرائيلي الإجرامية؛ لتهويد المسجد الأقصى المبارك وفرض السيادة الإسرائيلية عليه من خلال محاولة تقسيمه زمانيًّا ومكانيًّا؛ تمهيدًا لإقامة ما يُسَمّى الهيكل المزعوم على أنقاضه -لا سمح الله-، وهي ماضية في اعتداءاتها على المسجد الأقصى المبارك غير آبهة بالمجتمع الدولي ولا بقراراته، وما القرار الذي أصدرته محكمة سلطات الاحتلال الإسرائيلي قبل أيام بإغلاق مُصَلّى باب الرحمة بالمسجد الأقصى المبارك عنّا ببعيد.
إننا نشيد بموقف المرجعيات الدينية في مدينة القدس المحتلة التي رفضت هذا القرار الباطل، حيث أكّدت أن مُصَلّى باب الرحمة جزء لا يتجزأ من المسجد الأقصى المبارك، الذي يخصّ المسلمين وحدهم بقرار رباني غير قابل للنقاش ولا للتفاوض ولا للتنازل عن ذرة تراب منه.
ونحن هنا نؤكد أن قرار محكمة سلطات الاحتلال الإسرائيلي ليس مُلزِمًا للفلسطينيين؛ لأن قراراتها باطلة وهي ليست صاحبة اختصاص وليس من حقّها أن تقضي في أيّ أمرٍ يخصّ المسجد الأقصى المبارك، فالمسجد الأقصى أسمى وأغلى من أن يخضع لمحاكم وحكومات سلطات الاحتلال الإسرائيلي وهو غير قابل للمفاوضات والمساومات، حيث إن مُصَلّى باب الرحمة جزء أصيل من المسجد الأقصى المبارك، وسيبقى مُصَلّى باب الرحمة مفتوحًا ولن يُغلق بإذن الله سبحانه وتعالى، فللبيت ربٌ يحميه، ورجالٌ أشدَّاء يذودون عنه بالغالي والنفيس، إنهم المقدسيون ومعهم كل أبناء شعبنا الفلسطيني المرابط، وخلفهم أبناء الأمتين العربية والإسلامية.
ومن المعلوم أن مساحة المسجد الأقصى المبارك تبلغ (144) دونمًا، وهذه المساحة عبارة عن كامل المساحة المُسَوّرة، وتشتمل على جميع الأبنية والساحات والمحاريب والسُّبُل والمصاطب والقباب والأسوار، فالمسجد الأقصى وقف إسلامي، وما فوقه وما تحته وقف إلى يوم القيامة، كما أن محاولات سلطات الاحتلال الإسرائيلي فرض أمرٍ واقعٍ في المسجد الأقصى المبارك لن تنجح -إن شاء الله- في تغيير الحقائق وطمس المعالم الإسلامية والعربية في المدينة المقدسة.
إن باب الرحمة من أقدم أبواب المسجد الأقصى المبارك ويعود إلى العصر الأموي، ويقع على بعد مائتي متر جنوبي باب الأسباط في الجدار الشرقي للمسجد الأقصى الذي يُمثل جزءًا من السور الشرقي للبلدة القديمة، ويبلغ ارتفاعه أحد عشر مترًا ونصف المتر، وهو مُكَوَّن من بوابتين، ويطلّ على مقبرة باب الرحمة التي تضم قبور العديد من الصحابة والتابعين، وفي مقدمتهم أول قاضٍ للإسلام في بيت المقدس الصحابي الجليل عبادة بن الصامت، وكذلك الصحابي الجليل شَدَّاد بن أوس وغيرهما من عشرات الصحابة -رضي الله عنهم أجمعين-، وَمُصَلَّى باب الرحمة جزء من المسجد الأقصى المبارك، وهو حقّ خالص للمسلمين وحدهم وليس لغير المسلمين حقٌ فيه.
وذكر المؤرخ مجير الدين الحنبلي أن حجة الإسلام الإمام الغزالي -رحمه الله- اعتكف في المدرسة النصرية أعلى باب الرحمة وكان يُدَرِّس في المسجد الأقصى، وألَّف -رحمه الله- كتابه القَيِّم "إحياء علوم الدين" في المدينة المقدسة بعد أن آثر البقاء فيها ومجاورة مسجدها الأقصى، وقد ألَّف -رحمه الله- هذا الكتاب تحت قبة في ساحات المسجد الأقصى المبارك تُسَمّى اليوم القُبَّة الغزالية.
إن أهلنا في المدينة المقدسة يذودون عن المسجد الأقصى صباح مساء، ومن ذلك "هبَّة باب الرحمة" التي حدثت في مطلع العام الماضي، وشكَّلت انتصارًا جديدًا لأهلنا المقدسيين على إجراءات الاحتلال الإسرائيلي وغطرسته، من خلال قيامهم بكسر الحصار عن باب الرحمة، وذلك بإزالة السلاسل الحديدية عن بواباته والصلاة فيه لأول مرة منذ ستة عشر عامًا، وهم بذلك قد أحبطوا مخططًا للاحتلال الإسرائيلي في السيطرة على المنطقة الشرقية للمسجد الأقصى وتحويل باب الرحمة إلى كنيس يهودي.
وَتُعَدُّ هذه الوقفة المشرَّفة للمقدسيين صفحة مشرقة تُضاف إلى سجلّ الصفحات المشرقة لنضالات شعبنا، فقد علّمت المحتل درسًا بأن إجراءاته الظالمة لن تمرّ على شعبنا الفلسطيني ولن يُوافق عليها إطلاقا، حيث إن المسجد الأقصى مسجد إسلامي، وإن مدينة القدس ستبقى إسلامية الوجه، عربية التاريخ، فلسطينية الهوية، ولن يسلبها الاحتلال وجهها وتاريخها وهويتها مهما أوغل في الإجرام وتزييف الحقائق.
إننا نشيد بصمود أهالي المدينة المقدسة وتمسّكهم الدائم بالدفاع عن أقصاهم ومقدساتهم، وتصديهم المستمر لمُخَطّطات سلطات الاحتلال الإسرائيلي.
وبهذه المناسبة فإننا نتوجه بالتحية والتقدير إلى أهلنا في مدينة القدس وفلسطينيي الداخل، وإلى سدنة المسجد الأقصى المبارك وحراسه والمصلين والمرابطين، على دورهم المُمَيَّز في الدفاع عن مسرى النبي صلى الله عليه وسلم والمدينة المقدسة، فجزى الله الجميع خير الجزاء.
لقد شرّف الله سبحانه وتعالى شعبنا الفلسطيني بالمرابطة في هذه البلاد، لذلك يجب علينا أن نجمع شملنا ونرصّ صفوفنا ونُوَحِّد كلمتنا؛ لأنه بوحدتنا تتحطّم أحلام المحتلين وتفشل مُخَطّطاتهم، فالوحدة هي الطريق الوحيد للمحافظة على أقصانا ومقدساتنا وقدسنا وبلادنا المباركة.
إن مسؤولية الدفاع عن المسجد الأقصى المبارك ليست مسؤولية الشعب الفلسطيني وحده وإن كان هو رأس الحربة في الذود عنه، إنما هي مسؤولية العرب والمسلمين جميعًا في مساندة المقدسيين والوقوف بجانبهم ودعم صمودهم؛ للمحافظة على أرضهم ومقدساتهم، خصوصًا في هذه الأيام التي يتعرض فيها المسجد الأقصى المبارك والمدينة المقدسة لمؤامرات خبيثة، ومن هنا فلا بُدَّ لكل مسلم أن يعي تمامًا واجبه والدور المنوط به تجاه القضية المركزية للأمة -المسجد الأقصى والقدس وفلسطين-.