في تجربة (إسرائيل) وقائع كثيرة تدلّ على محاولات زعمائها الصهاينة فرض ثقافتها من أعلى، بصرف النظر عما آلت إليه هذه الثقافة من صيرورة راهنة.
وهي، والحق يُقال، وقائع تم كشف العديد منها، ولا يزال ثمّة مزيد آخر ينتظر الكشف. كذلك فيها ما يُحيل إلى خفايا سيرورة الاختلاق، أو التوليف المُفتعل، إبّان التأسيس، سواء فيما يتصل بما أصبح يسمى "الشعب اليهودي"، أو بما اصطلح على توصيفه بأنه "أدب إسرائيلي".
يعود سبب الكلام في هذا الشأن، هنا والآن، إلى تقديم الباحث الإسرائيلي في شؤون الأدب، أبراهام بلابان، قراءة تحليلية لكرّاستين بعنوان "حديث الأدباء"، عُثر عليهما أول مرة في ذروة جائحة كورونا التي اجتاحت "إسرائيل" والعالم بأسره أخيرًا، في متحف "بيت ديفيد بن غوريون"، أول رئيس حكومة ووزير دفاع في دولة الاحتلال، في تل أبيب، وتتضمنان محاضر الكلمات التي أُلقيت، والنقاشات التي جرت، في لقاءين بادر إلى عقدهما مع مجموعة من الأدباء ورجال الفكر، بعد إعلان إقامة الدولة بوقت قصير، وتم فيهما التباحث حول مسألة "كيفية بلورة وتشكيل الملامح الروحية للشعب" في الكيان الذي تأسس لتوّه. ومن الأمور الملفتة التي تشير إليها المواد الواردة في الكرّاستين، في صدد المحور الذي أشرنا إليه، ما يلي:
أولًا، على الرغم من اندلاع حرب في عام 1948 وصل إلى البلد، مطلع العام التالي، ما يزيد عن مائة ألف مستوطن يهودي جديد، جرى توطين معظمهم في معسكرات خيام (وبحلول نهاية هذا العام، تخطّى عدد سكان إسرائيل المليون نسمة)، ما جعل بن غوريون يشعر بقلق بالغ، ليس فقط بسبب الوضع الأمني والسياسي، إنما أيضًا بسبب التغييرات الكبيرة التي طرأت على طابع السكان وتركيبتهم، فغالبية المستوطنين الذين أتوا في عشرينيات القرن العشرين كانت من أوروبا الشرقية، وفي الثلاثينيات كانت من أوروبا الوسطى. وفي مطلع 1949، أتت غالبية يهود اليمن وهنغاريا، ومعها أتى ناجون من الهولوكوست، ومستوطنون كثر من شمال أفريقيا.
وكان التخوّف الأكبر الذي ساور بن غوريون، ولازمه طوال حياته السياسية، يتمثل في عدم وجود قاسم مشترك لهذه "الأسباط المتشظية"، بحسب تعبيره. بناء على ذلك، رغب في التشاور مع رجالات الفكر والأدب، بهدف إقامة مجلس أعلى للشؤون الثقافية، وظيفته تقديم النصح والمشورة إلى الحكومة بشأن كيفية تحويل "هذه الأسباط المتشظية" إلى شعب واحد.
وفي أول لقاءٍ مع هؤلاء، عقد في أواخر آذار/ مارس 1949، قال بن غوريون: "نحن كلنا رعاع، ولكن من هذا الرعاع علينا أن نصنع شعبًا". وسرعان ما أحال فعل الصنع إلى فعل ملازم آخر هو الصهر، وما يستوجبه مما وُصف في اللقاء بأنه "درجة حرارة عالية"!
ثانيًا، عُرضت في اللقاءين مسألتا احتلال العمل واحتلال الأرض، عبر التأكيد أن أحد الواجبات الأساسية للمفكر والأديب يتمثل في "الحثّ بكل الطرق على العمل وعلى فلاحة الأرض". وفي اللقاء الثاني، تحدّث بن غوريون عن قانون جديد، هو قانون الخدمة العسكرية الذي "يلزم كل شاب وفتاة ممن تبلغ أعمارهم 18 عامًا، بالحصول على تأهيل في الزراعة، وذلك كجزء من الخدمة العسكرية".
ويفيد بلابان بأن موضوع الأرض احتل، في تفكير بن غوريون، أهمية عسكرية من الدرجة الأولى. وأشار إلى مقال له نشره في عام 1935، وتحدّث فيه عن العبر المُستخلصة من حرب قرطاجة ضد روما.
ويصف بن غوريون هنيبال بأنه أحد القادة العسكريين العظام في التاريخ، ولكن الهزيمة التي مُني بها في حربه ضد الرومان وجنرالاتهم الذين كانوا متوسطين، نجمت عن أن قرطاجة كانت "دولة – مدينة"، بينما كانت روما "دولة – قرية".
ومما كتبه: "تحطّمت بطولة هنيبال على رحى الحرب الضروس التي خاضها فلاحو روما. فهؤلاء الفلاحون لم تفتّ في عضدهم الهزائم المريرة التي مُنوا بها، واحدة تلو الأخرى، لكونهم متمترسين وراسخين في أرضهم"!.