قائمة الموقع

على عكاز "الصبر".. الأطفال "المبتورون" يركلون ذكريات مؤلمة

2020-11-10T11:21:00+02:00

أطلق المدرب صافرته من منتصف الملعب؛ ركض الأطفال ذكورًا وإناثًا نحوه، كل منهم يتكئ على عكاز، وعلى حكاية مختلفة مع الإصابة، لكنهم هنا متشابهون في المعاناة، يهربون من تلك الجراح المغروسة في قلوبهم، رفضوا أن تتوقف الحياة عند ذاك الحد.

أمامك صف من الأطفال المبتوري الأطراف بسبب الاحتلال والحوادث، يرتدون زيًّا رياضيًّا برتقاليًّا وأزرق، تدنو بنظرك إلى أطرافهم فتجد ذاك الطفل مبتورة رجله اليمنى، وآخر اليسرى، ذاك رجله مبتورة من فوق المفصل وآخر من الساق، تلك الطفلة مبتورة اليد، يقفون فوق أرضية ملعب خماسي معشب بالمحافظة الوسطى، اشتركوا في معاناة واحدة.

عهد في أولى خطواتها

بعيدًا عن المشهد السابق، في إحدى زوايا الملعب بصعوبة تستطيع الطفلة عهد حمدان (10 أعوام) السير خطوات للأمام، فهي أول مرة تسير بعكازين بلا طرف، يحاول المدرب محمد سلمان مساعدتها على المشي خطوات معدودة إلى الأمام، بعدما نهضت من على كرسي بلاستيكي وأمسكت بالعكازين.

تقضم أحاديث قلبها وتخبئها في صوتها، بعدما التقطت أنفاسها تحدثك: "ولدت ببتر بيدي بسبب الفسفور الذي ألقاه الاحتلال على قطاع غزة (...) جئت إلى هنا لأني أحب الرياضة، وحلمي أن أصبح اختصاصية علاج طبيعي".

بينما كان المدرب سلمان يمسك يدها محاولًا نقلها وتعليمها تخطو عهد خطوة أخرى نحو حلمها، قال لنا وهو على الهيئة ذاتها: "لكوني اختصاصي علاج طبيعي يجب أن أؤهلها لإمساك العكاكيز، وتؤدي تمارين الاستطالة وتقوية العضلات، وتتعلم المشي، كي تستطيع السيطرة على نفسها في أثناء المشي، فليس سهلًا فقدان جزء من الجسم، وليس كل إنسان عضلاته قوية، إذ يحتاج لطريقة تزيد التوازن".

مي تحمل أوجاعها

بمتابعة تمارين الإحماء قبل بدء المباراة، تمد مي (14 عامًا) قدمها على الأرض وتشدها بيدها بقوة، لم تخف سبب مجيئها بعدما رفعت نظرها للأعلى وفردت ابتسامة على وجنتيها: "إجينا نرفه عن نفسنا؛ عشان الرياضة حلوة وأنا بحب كرة القدم".

قصة مي بدأت حينما ولدت تحمل أوجاعًا بقدمها، فسقطت عليها وكسرت، حاولت إجراء عمليات دون جدوى حتى قرر الأطباء بتر قدمها عام 2018م.

نهضت مي وأكملت تمارين الإحماء، بعد دقائق تجمع الأطفال بحلقة دائرية على الأرض لأخذ قسط من الراحة، وضعت الطفلة عائشة العبادلة من منطقة القرارة بمحافظة خان يونس عكازين بجانبها.

الطفلة ذات العينين الزرقاوين كلون قميصها الرياضي بشعر ذهبي تمد قدميها على الأرض، ينغص هذا الجمال أمامك بتر يدها اليسرى، بكلمات طفولية عفوية تخبرك: "بحب أعمل تمارين، وحبيت كرة القدم وآجي ألعب هنا، خاصة إنه إلي قرايب".

تلقي نظرة على يدها المبتورة، تحرر كلماتها: "أول ما انخلقت هيك، خلقة الله".

صاروخ إسرائيلي فوق سطح منزل وئام

تقابل جلستها الطفلة وئام الأسطل (15 سنة)، تحدثك بعد ابتسامة هادئة: "بحب الرياضة وأرفه عن حالنا، بنبسط كتير".

من بوابة الذاكرة، تصحبك إلى ذكرى إصابتها سنة 2014م:

أحداث دراماتيكية شهدها قطاع غزة آنذاك، قصف الاحتلال يتواصل، وئام مع والدها يصلح التلفاز فوق سطح منزلهم لمتابعة الأخبار وحصيلة الشهداء، في الأسفل يكتظ منزلهم بالنازحين من مناطق أخرى، فالمنزل يقع في السطر الغربي بخان يونس بعيدًا عن مناطق الحدود، نزل والدها إلى البيت وبقيت هي فوق سطح المنزل، قبل أن يسقط صاروخ حربي من طائرة للاحتلال دون طيار.

صوت الصاروخ الذي جعلها ترى المسافة الحقيقية بينها وبين الموت يئن في ذاكرتها، وكأنك تسمعه من نبرة صوتها وهي تسرد لك ما تبقى من المشهد: "استدرت للوراء شعرت بنزول شيء مفاجئ تبعه وميض وفجأة أغمي علي، ثم صحوت أنادي: بابا، بابا!؛ وأغمي علي مرة أخرى، ووجدت نفسي بالمشفى".

تنهدت وهي تستعيد المشهد الذي لم تنسه: "بالمشفى استغربت سبب وجودي هناك، وواصلت النداء على أبي، حتى وضعت يدي على قدمي فلم أجدها، فصرخت بأعلى صوتي: "وين رجلي راحت!؟، سالت دموعي يومها بغزارة، وواصلت البكاء بمرارة، وكأن الدنيا تجمدت وحياتي انتهت".

"حمدت الله وصبرت؛ ومخليتش الإصابة تأثر علي" هكذا تخطت وئام جرح الإصابة الجسدي، لكنها لن تستطيع تخطي الجرح المغروس في قلبها من تلك الذكرى، تخرج من الذاكرة تلمح في عينيها نظرة مترعة بالحزن ممزوجة بالأمل قائلة: "الرياضة بتعطينا شعور أنه حتى لو راحت قدمك فلا يوجد شيء يوقفك".

"كنت بتمنى ألعب زي هيك وهي تحقق" هذا الكلام قاله محمد النجار (15 عامًا) بعد انتهاء الاستراحة والعودة لتمارين الإحماء، راسمًا ابتسامة على وجنتيه: "الرياضة بتخفف ألم الإصابة، كأننا إخوة وليس بيننا شي (..) حينما نلعب نتشارك معًا".

دمج الأطفال

رئيس بعثة اللجنة الدولية للصليب الأحمر في غزة إجناسيو كاساريس، الذي كان يتابع الأطفال، قال في حديث خاص لصحيفة "فلسطين": إن تركيز اللجنة ليس فقط في تركيب الأطراف للأطفال، بل دمجهم في المجتمع من طريق الفعاليات الرياضية، فندعم الأشخاص الذين فقدوا أطرافهم في الحروب أو الولادة بإعادة دمجهم".

وأضاف: "نحاول تأسيس قاعدة صلبة من صغرهم بموضوع الدمج من طريق كرتي القدم والسلة للكراسي المتحركة".

بزاوية أخرى من الملعب، تلهو والدة الطفلة عائشة العبادلة مع ابنتها وتلتقط لها صورًا بهاتفها، الطفلة الشقراء سعيدة مع والدتها وهي تركل الكرة بباطن قدمها تارة اليمنى وتارة اليسرى، بعد أن أخذنا قليلًا من وقت الأم قالت: "الرياضة شيء مهم في حياة الإنسان، وعائشة تثبت نفسها بالرياضة فأحببت تشجيعها؛ لأنها حينما ترى تشجيعنا لها ستمارس الرياضة أفضل".

هل تغيرت نفسيتها بالرياضة؟، "أصبح لديها نشاط وحيوية (ترد العبادلة) في البيت كثيرًا ما تمارس الرياضة وأصبح لديها روح رياضية، ما أثر فيها إيجابًا".

تضع يدها على رأس ابنتها: "الترويح عن النفس ونسيان ألم الإصابة مهم للطفل، فلم تأت جمعية تطلبها لممارسة الرياضة إلا وشجعتها، حتى إن الطفلة لما ترى الأطفال من ذوي البتر وحالاتهم أصعب منها فإن ذلك يهون عليها".

في وسط الملعب عدة لاعبين يصطفون على شكل قاطرة يمرر عبد الله علي الكرة لمدربه الذي يعيدها إليه ببطء، تقدم نحو الكرة بحركة سريعة غرس عكازيه بالأرض وركل الكرة في زاوية المرمى محرزًا هدفًا.

مسح جبينه بيده، وأعرب عن فرحته بالهدف: "الحقيقة أنني أول يوم أتدرب هنا، لكنني سعيد وشعوري جميل لأنني منذ مدة لم ألعب الكرة، ومع ذلك ما زال أدائي جيدًا (...) لدي خبرة في لعبة كرة القدم، لكن التجربة مختلفة هذه المرة لأنني كنت دائمًا ألعب مع أشخاص ليسوا من ذوي البتر".

يبدو عبد الله أبو محمد متحمسًا، وهو يركل الكرة بمهارة، يختصر حديثه قبل انطلاق المباراة: "أصبت عام 2015م، وكنت موهوبًا في كرة القدم وما زلت كذلك رغم بتر قدمي".

عامل نفسي

قبل أن يطلق صافرته لجمع الفريق مرة أخرى، يقول المدرب محمود أبو حمام عن طرق التعامل الرياضي مع المبتورين: "نهتم بالعامل النفسي، لأن أمامك مصابين ومبتورين، أولًا نرغبهم بالقدوم إلى المباراة واللعب، ومحاولة مساعدتهم قدر المستطاع على أن يلعبوا وتصبح معنوياتهم مرتفعة، خاصة أنهم يلعبون مع أشخاص مبتورين كحالهم، ومن حيث المباريات والمشاركات، نخوض منافسات دولية بتركيا وفرنسا فيصبح لديه حافز للعب على مستوى التأهيل".

في المشهد أمامك، وئام ومي تركلان الكرة على المرمى، لا يزال مدرب العلاج الطبيعي يحاول مساعدة عهد على المشي، والدة عائشة تلعب مع ابنتها، المدرب أبو حمام أوشك أن يطلق صافرته.

توزع الفريقان، مي كانت في مركز قلب الدفاع، ما شعورك الآن؟، ضحكت الطفلة المحتجبة: "اللعب وأمامك ذكور يشعرك بالخجل؛ لكني أحاول التأقلم".

في الملعب يتجاوز عبد الله أبو محمد اللاعبين الأول والثاني والثالث، ويمرر الكرة لوئام، التي أفلتتها، عادت مي إلى الدفاع بعد ضياع الكرة من فريقها، ثم انطلقوا مرة أخرى حتى وصلت الكرة إلى عبد الله الذي مررها إلى زميله محرزًا هدفًا.

ربما لا تمحو كرة القدم ذكرى الأطفال المؤلمة، فالبتر يرافقهم حتى وهم يلعبون إذ يرون آثار فقدان أطرافهم، لكنها لعبة رياضية يهربون فيها إلى جو من المرح والمنافسة، يندمجون شيئًا فشيئًا في المجتمع، تنمي حافزهم نحو المنافسة، وتخرجهم من العزلة والضعف.

كل هذه المآسي سببها الاحتلال الإسرائيلي لهؤلاء الأطفال، باعتداءاته "الوحشية" على قطاع غزة خلال حروبه العدوانية الثلاثة السابقة.

 

 

 

اخبار ذات صلة