كتب الدكتور معتز الخطيب في "الجزيرة نت" بتاريخ 10/6/2020 مقالة بعنوان "التناقض بين الأخلاقي والسياسي لدى حركات المقاومة الفلسطينية"، تضمنت دروسا في الأخلاق للمقاومة الفلسطينية، لتنضاف إلى الكثير من دروس الأخلاق التي وُجهت وتُوجّه إلى المقاومة الفلسطينية كأنها الشذوذ في اللاأخلاقية في أوضاع عربية تعج حتى التخمة بالأخلاقيين حكاما ومثقفين ونخبا وثوارا، لا سيما منذ 2011، فوجب إلقاء الدروس في الأخلاق عليها، وهو ما يصيب، بالضرورة، آلاف أو عشرات الآلاف من الشهداء والأسرى والمرابطين في الأنفاق.
يمكن اختيار مجموعة من الموضوعات التي طرحتها مقالة الأخ والصديق الدكتور معتز الخطيب، لم أتوقع منه أن يشيّع الأمين العام السابق لحركة الجهاد الإسلامي الفلسطينية رمضان عبد الله شلح بمثل هذه المقالة بعد إعلان وفاته (وأحسبه مع الشهداء والصالحين إن شاء الله).
أولًا: تعتمد المقالة على ما تسمية "المبادئ الأخلاقية الكبرى" (كالحق والعدل والحرية) بعد أن أسقط منها عزة الأمة واستقلالها ووحدتها ومحاربة الغزاة ودرء الفتنة. ولكن من دون أن يقول لنا أيضا من يتبنى هذه المبادئ في سياسته ومواقفه في هذا العالم؟ وما المرجعية التي تعرّف ما هو الحق وما هو العدل وما هي الحرية؟ وهل هنالك اتفاق عليها في مستوى البلد الواحد أو في المستوى العالمي، مثلًا لو أنزلناها على أية قضية من القضايا في بلادنا، أو في العالم، لوجدنا الاختلاف حولها هو الظاهرة العامة. ولنأخذ قضية فلسطين أو قضية الموقف من أميركا أو من العدالة الاجتماعية أو من الإسلام أو من الحداثة، أو في التاريخ الموقف من المغول أو الفرنجة أو الاستعمار المعاصر والصهيونية والعنصرية. بهذا تكون المقالة قد أسست موقفها على بنيان ملتبس "مبادئ أخلاقية كبرى" كالحق والعدل والحرية، تفهم وتعامل وتمارس في كل قضية بما لا يحد من الخلاف والمواقف. والأسوأ رميها في وجه المقاومة الفلسطينية لينزع عنها أخلاقيتها.
ثانيا: يقول: "لو احتكمنا إلى المعايير الأخلاقية، فإن التحرر من الاستبداد وتحرير الأوطان متلازمان ويصعب الفصل بينهما…"، السؤال هنا: هذه الموضوعة من أين جاءت؟ أو ما الدليل على صحتها شبه الإطلاقية؟
هل جاءت من التاريخ العربي الإسلامي، أم من تجارب ثورات معاصرة في عالمنا، أم جاءت من الفقه الإسلامي السني الذي خالفها في أغلب الحالات؟ السؤال الثاني هنا، واعتمادا على الاختصاص الذي يدرّسه الدكتور معتز في الجامعة: هل كان المعيار في مبايعة الحاكم المسلم هو الحق والعدل والحرية، أو هل هو مستبد؟ أم تغلّب معيار وحدة الأمة وعزة الأمة ودرء الفتنة، ومحاربة الغزاة والبغاة، ومحاربة الخوارج معايير تقدمت على عدل الحاكم، أو على شرعيته حيثما جاءت بالغلب أو بالوراثة؟ بمعنى آخر هل قام الفقه الإسلامي السني كله على مبدأ أن التحرر من الاستبداد لا ينفصل عن محاربة الروم أو الفرنجة أو المغول، أو الفتوحات؟ فأين يذهب بدول وسلطات إسلامية لم يخل حاكمها من جور الاستبداد، ووضع السيف في رقاب معارضيه، أم لا يعتبرها جزءا من تاريخنا الإسلامي الذي نعتز به؟ بل جزءا من التاريخ الذي حافظ على وحدة الأمة وإسلامها وديارها.
هذا لا يعني طبعا، دفاعا عن الاستبداد. ولكن يعني، وبالصوت العالي، عدم اعتباره المعيار الأول في موازنة الأولويات كما تحاول المقالة أن تذهب إليه. ومن يذهب إليه لا يترك من تاريخنا إلاّ بضع عشرات من السنين، والأهم يشطب أمجادا حققتها الفتوحات، وأخرى حققتها الحروب ضد الغزاة، وفي الدفاع عن بيضة الإسلام، أو أمن العباد. لا يا أخ معتز ليس التحرر من الاستبداد متلازما لا ينفصل عن التحرير والاستقلال والوحدة وعزة الأمة، وخروجها من تحت أساطير الصهيونية والهيمنة الخارجية. وهو عكس ما ذهبت إليه مقالتك التي أعطت التحرر من الاستبداد الأولوية. وبالمناسبة، يا ليتك أسندت رأيك بالشروط التي وضعها الفقه السني للخروج على الحاكم. وأين موقع الاستبداد بينها؟
ثالثا: وتقول المقالة، "تخسر حركات المقاومة أخلاقية قضيتها حين تقصر معيار تقويمها للأفعال والمواقف على النظر إلى العالم فقط من زاوية دعمها هي ودعم تصوراتها هي لقضيتها. لأن الموقف الأخلاقي من الظلم والاحتلال والإجرام لا يتجزأ سواء كان هذا بأيدٍ إسرائيلية أو غير إسرائيلية. وسواء كان على أرض فلسطين أو خارجها".
تستمد القضية الفلسطينية ومقاومة العدو الصهيوني سماتهما وطبيعتهما وعدالتهما وأخلاقيتهما من مصادر لا علاقة لها بمواقف هذه المقاومة أو تلك، فهي قبل المقاومة، أية مقاومة، وهي بعدها باقية ما دامت فلسطين لم تحرر. ولا أريد أن أعيدك إلى سورة "الإسراء"، ولا إلى العهدة العمرية، ولا إلى التاريخ الإسلامي، ولا إلى ما هو المشروع الصهيوني.
القول إن "الموقف من الظلم والاحتلال والإجرام لا يتجزأ"، يحتاج إلى ألاّ يمر مرّ الكرام. يقول "سواء كان بأيدٍ إسرائيلية أو غير إسرائيلية أو كان على أرض فلسطين أو خارجها". فها هنا نواجه مشكلة كبرى حيث لا تفريق بين أيدٍ إسرائيلية وأيدٍ عربية أخرى مثلا، أو بين أرضٍ فلسطينية أو خارجها. هذا يعني أننا بحاجة إلى أن نوضح الفارق بين مشروع اقتلع الشعب الفلسطيني، وأنكر على فلسطين أن تكون فلسطينية وعربية وإسلامية وقضية إنسانية، وأحلّ بها مستوطنين ليؤبد تهويدها. فهذا لا يقارن بأي حالة أخرى من احتلال استعماري أو ظلم أو إجرام. ومن لا يدرك ما للقدس والمسجد الأقصى وما حوله من مكانة في الاستراتيجية، وفي الدين، وفي الوطنية والعروبة والإسلام، يحتاج إلى أن نبدأ معه من الدرس الأول: ما هو المشروع الصهيوني؟
إذا كان الفارق صارخا بين الموقف من المشروع الصهيوني وما عداه في الداخل العربي والإسلامي، فإن القول إن الموقف من الظلم والإجرام لا يتجزأ يوجب أن يسأل حوله مرة أخرى، من أين جئت بهذا القانون المطلق في عدم التجزيء أو التفريق بين ظلمٍ وإجرامٍ وإجرام؟ هل جئت به من غربٍ أو شرق، أو من فقهٍ ومنطق، أم من ممارسة لأي حاكم أو مناضل أو مجاهد أو فقيه أو إنسان عادي؟ فما من أحد إلاّ ويميز في رؤيته ومسلكه بين ظلمٍ وظلم أو بين إجرامٍ وإجرام، ويميز بين حقٍ وحق، وعدلٍ وعدل، وما من أحدٍ يقاوم دفعة واحدة كل ما في الدنيا من ظلمٍ وإجرام، ويتعامل وإياها جميعا على قدم المساواة نظرًا وممارسة، وما من أحد يمكن أن يدافع أو يطبق العدل المطلق، والحق المطلق.
ولا تنسَ أن الكمال لله وحده. بلى وألف بلى أيها الأخ العزيز معتز أنت وأنا وكلنا نجزئ ونضع أولويات، ونسكت عن هذا ونشهّر بذاك، فالإيمان درجات والتقوى مراتب واستطاعة. فأنت هنا تعاند في سنة من سنن الله. ومع ذلك حاولت إنقاذ موضوعتك من الورطة، فقلت: "فالموقف الأخلاقي من كل إجرام موقف مبدئي. ثم يمكن بعد ذلك المفاضلة في من هو أشد إجراما من الآخر بناءً على معطيات محددة"، ثم عدت فورا، نادما، إلى الورطة الأولى لتقول "ومن ينتقي أو يبني مواقفه من منظور مصلحي حزبي أو جزئي يضحي بأخلاقية قضيته هو أولًا". يعني عدت تقول ممنوع المفاضلة، وخصوصا بالنسبة إلى الفلسطيني. يعني ما أشير إليه من مفاضلة جئت به استدراكا ولرفع العتب، وإلاّ فالمفاضلة تعني وضع استراتيجية وأولويات، وليس فتح النار في كل الاتجاهات، فلا تجد من لا تخاصمه.
ويقول: "لا يمكن للاستبداد أن يكون حاملًا لقضية تحرر وطني"، أيضا من أين جئت بهذه الموضوعة؟ من التاريخ؟ من الفقه الإسلامي؟ من التجارب المعاصرة؟ ماذا تقول في الأحزاب الشيوعية وقادتها المشهورين بالشمولية والاستبداد؟ هل حملوا قضية "تحرر وطني" لبلادهم (ستالين، ماو، هو تشي منه)؟ وماذا تقول في الديمقراطيين غير المستبدين الذين استسلموا للاحتلال، وباعوا القضية الوطنية، مثلًا حكومة فيشي في فرنسا أيام الاحتلال النازي؟ باختصار هذه القاعدة لا علاقة لها بالسنن ولا بالتاريخ ولا بالمنطق الذي لا يرى إلاّ لونين: الأسود والأبيض، ولا يرى اجتماعهما في آن واحد، ولا يرى إمكان الازدواجية الأخلاقية في الإنسان الواحد، والحزب الواحد، والحكومة الواحدة. فالإنسان الواحد يمكن أن يعمل خيرا وشرا في آن. "فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره".
وينطبق هذا على الإنسان الواحد. وفي هذا يمكن أن يقال الكثير حين يوضع ميزان الحساب. باختصار: ما أسهل إطلاق الأحكام الجامعة المانعة أحادية الجانب دائما، دون الرجوع إلى السنن والتاريخ والفقه. وإذا كنت إسلاميا فإلى القرآن والسنة.
رابعا: المقاومة الفلسطينية وقضايا التحرر العربي والإسلامي، يريد الدكتور معتز من المقاومة الفلسطينية أن تتدخل في الشأن الداخلي وتناصر ثورة ما هنا أو هناك. وهذا يعني التدخل في كل صراع داخلي على المستوى العربي أولًا، وربما الإسلامي والعالمي أيضًا، وجّه ضد الاستبداد، وإلاّ فقدت أخلاقية قضيتها الفلسطينية. هنا أيضا يبدو ظاهر الموقف كأنه مسلمة من المسلمات. ولكن لا يلحظ أن المقاومة الفلسطينية إذا تدخلت في الشأن الداخلي العربي لا تجد من لا تعاديه ويعاديها. بل لا تجد بين المعارضات إلاّ خصيما إذا انحازت إلى أيّ منها دون الأخرى. باختصار هذه دعوة إلى المقاومة للانتحار، فمَن ناصرته لن يفيد منها لأن مصيره مرتبط بعوامل قوة وضعف لا علاقة لها بموقف المقاومة. إن من يحرر الأمة هي شعوبها.
فحنانيكم بالشعب الفلسطيني ومقاومته. فلا تحملوهما أكثر مما يحملان. وهيهات يستطيعان حمله.
خامسا: مركزية القضية الفلسطينية، يقول: "لا ينبغي للقضية الفلسطينية أن تصبح استثناء (قضية مُشَخصنة) هذا هو جوهر المشكلة الحالية أخلاقيا وسياسيا من الواضح أن قضية فلسطين لم تعد مركزية في عالم ما بعد الثورات العربية". هذا كلام من لا يعرف مكانة فلسطين في الدين والاستراتيجية والوطنية والعروبة والإسلام وتحرير العالم من العنصرية الصهيونية الاقتلاعية الإحلالية. وهذا كلام من لا يعرف مكانة إحلال المشروع الصهيوني في فلسطين، في الاستراتيجية العالمية للاستعمار الغربي، منذ منتصف القرن التاسع عشر وللإمبريالية الأميركية أمس واليوم وغدا. وذلك باعتبارها في مكانة القضية المركزية للغرب في استراتيجيته العالمية.
مركزية القضية الفلسطينية بالنسبة إلى الشعوب العربية والإسلامية، ليست رأيا أو شعارا صنعته السياسة أو الاستراتيجية أو الأخلاق. إنها مسألة موضوعية وجودية تمسّ الأمن القومي، ومستقبل الأمة العربية والإسلامية، فإقامة الكيان الصهيوني في فلسطين، ليس في جزيرة في المحيط الأطلسي. وإنما كيان قام في قلب الوطن العربي وصادر القدس، وهدفه هدم المسجد الأقصى وتحويل المقدسات المسيحية والإسلامية والتراث العالمي التاريخي الإنساني إلى آثار دارسة حين يهجّر مسلميها ومسيحييها العرب، وتهوّد. نعم فلسطين استثناء بالنسبة إلى العرب والمسلمين، كما بالنسبة إلى الصهيونية والغرب. فيا للهول إن كنتم لا تعلمون، أو كنتم تنكرون.
الجزيرة نت