انتهيت قبل أيام من قراءة رواية جورج أورويل "1984" (ترجمة حازم حامد سلامة، الدار الأهلية للنشر والتوزيع، الطبعة الرابعة، عمّان 2019)، وهي من الروايات التي كنت سجلتها ضمن قائمة كتبٍ ألزمت نفسي بقراءتها، إلا أن الظروف كانت تحول دون ذلك. وفي مناخات جائحة كورونا، وحالة التباعد الفيزيائي التي نعيشها، إلى جانب التحرّر من أعباء السفر؛ وجدت أن أفضل وسيلةٍ للتغلب على ضغط الفراغ الإلزامي الذي فرضته علينا صاحبة التاج، كورونا، هي المطالعة.
كتب الكثير عن هذه الرواية الاستشرافية التي تجسّد حصيلة خبرات وقراءات واسعة، إلى جانب قدرة إبداعية متميزة، تمكن بفضلها صاحبها من حبك الأحداث بطريقة أخّاذة غير مألوفة؛ واستطاع التركيز على ما هو أساسي محوري، على الرغم من التفصيلات الكثيرة. وما يسجل للكاتب قدرته غير العادية على تلمّس ملامح الآتي على الصعيد الدولي، في ضوء المتغيرات التي شهدها العالم في المرحلة التي تلت الحرب العالمية الثانية مباشرة؛ ومن أبرز تلك المتغيرات تراجع أهمية دور كل من فرنسا وبريطانيا، وأوروبا عموماً، على مستوى السياسة العالمية، مقابل تعاظم الدورين، الأميركي والروسي. كما أنه يلاحظ تبلور معالم دور لافت لكل من الصين واليابان، ولو بصورةٍ أقل. هذا في حين أنه وجد أن الأجزاء الأخرى من العالم، سواء الواقعة في آسيا أو في أميركا اللاتينية أو في أفريقيا، ستتحوّل إلى مناطق نزاع من أجل السيطرة عليها، خصوصا بين أوقيانيا التي تشير إلى كل من أميركا وبريطانيا، وأوراسيا التي يقصد بها روسيا والمناطق المتاخمة لها.
يتناول الكاتب، في روايته، موضوع تعاظم مخاطر المراقبة التي تفرضها الدول المعنية على شعوبها من خلال الأحزاب الشمولية التي تراقب كل شاردة وواردة تخص حياة أعضائها، تراقب تفكيرهم، وتفرض عليهم اللغة الجديدة، والتفكير المزدوج، وتُلزمهم بالطاعة العمياء للحزب. ومن أهم الاستشرافات التي تنبأ بها الكاتب قبل سبعين عاماً أن المرحلة المقبلة ستشهد سباقاً للتسلح غير مسبوق في مختلف أنواع الأسلحة؛ بل ستقتصر الأبحاث العلمية على تلك الجارية في المجالات العسكرية، وستتوزع بين مختلف أنواع الأسلحة، بما فيها البيولوجية الجرثومية. ومن الموضوعات التي تستوقف في الرواية تزوير الماضي، ليكون موائماً لتطلعات الحاضر، ومؤكّداً توقعات الحزب بشأن المستقبل. هذا إلى جانب استراتيجية إيجاد الأعداء من أجل شدّ العصب، وفرض حالة الطوارئ الدائمة على الأعضاء والتابعين.
لن تسهب هذه المقالة كثيرا في ذكر التفاصيل الخاصة بالرواية، وهي ليست بصدد تقديم دراسة نقدية عنها، وإنما ما لفت نظري في موضوعها إمكانية اعتماده مادة معرفية إبداعية يمكن الاستفادة من بعض أفكارها في تحليل واقعنا الحالي ودراسته، مع الأخذ بالاعتبار جملة المتغيرات والتطورات منذ تاريخ كتابة الرواية، هذا إلى جانب ضرورة الفصل بين المتخيل الممكن، الشبيه بالواقعي، والمتخيل الإبداعي في الرواية. ومن أهم الأفكار في هذا المجال أن الصراع الحاد عادة ما يكون بين الطبقتين، العليا والوسطى، لوجود تناقض بين نزوع الأولى إلى الاستمرار ونزوع الثانية إلى الصعود، فالطبقة العليا ترى في الوسطى منافستها الجدّية. ولذلك تعمل على تفتيتها، والحد من عناصر قوتها؛ في حين أن الوسطى تتحين الفرص، وتجمع أسباب القوة، وتراقب مواطن الضعف لدى غريمتها. هذا في حين أن طبقة العامة تظل تعيش حياتها، وتكون عادة مادةً لمشاريع أهل الحكم ومخططاتهم، مع انعكاساتٍ إيجابيةٍ على أوضاعها نتيجة التقدم التكنولوجي، وزيادة الإنتاج الذي غالباً ما يُوظّف في مشاريع الحروب المستمرة التي قد تكون، في أحيانٍ كثيرة، حروباً وهمية مفتعلة، تستنزف الطاقات والإمكانات، وتُلزم العامة في البقاء في موقع المحتاج، الحريص على تأمين أساسيات العيش.
الفكرة الأخرى التي يمكن الاستفادة منها، لفهم ما تتعرّض له منطقتنا في الوقت الحاضر، هي فكرة الحرب المستمرة، واعتبارها الوجه الآخر للسلام، فالقوى الأساسية قد وصلت إلى مرحلة نهاية الحروب في ما بينها، ولم تعد عواصمها ومدنها الأساسية مستهدفة، وإنما بلداننا مع بلدان أخرى في أفريقيا وآسيا هي المرشحة أن تكون ساحة معارك، وذلك نتيجة إدراك الأطراف الثلاثة، خصوصا أوقيانيا وأوراسيا، بأن حرباً مستقبلية مباشرة بينها ستكون تدميراً شاملاً بالنسبة إليها، وهي لن تحقق أي مكاسب لها، لذلك باتت الحروب في المناطق المتنازع عليها، في بلادٍ تمتلك العنصر البشري والمواد الأولية. وهي بلاد تعيش، وفق وجهة الدول الثلاث المعنية هنا، خارج التاريخ، بل هي لا تعترف بها بوصفها مجتمعاتٍ من حقها أن تنمّي نفسها، وتضمن مستقبلاً أفضل لشعوبها؛ لذلك ستكون الحروب في هذه المناطق، وستستخدم فيها كل أنواع الأسلحة التي ستلتهم نفقاتها الفائض الاقتصادي الذي كان من شأنه تأمين المقدمات والشروط اللازمة لتنميةٍ شاملة، يستفيد منها الجميع.
وهناك إشارات لافتة من الكاتب تخص موضوع التوافق بين أوقيانيا وأوراسيا، على الرغم من حالة الحرب المعلنة بينهما. وهذا ما نلمسه واقعاً على الأرض في سورية اليوم. هذا على الرغم من اختلاف المواقف العلنية لكل من الولايات المتحدة الأميركية وروسيا في بداية الثورة السورية؛ إذ تصدرت الأولى مشهد مجموعة أصدقاء الشعب السوري؛ في حين التزمت روسيا سياسة دعم النظام، ومدّه بالأسلحة، وتغطيته سياسياً في مجلس الأمن. ومع متغيرات الوضعية السورية، تبيّنت معالم التوافق بين الطرفين بصورة أوضح؛ إذ تم توزيع مناطق النفوذ بينهما، كما أن التنسيق المشترك بخصوص العمليات الجوية، والتعامل مع القوى الميدانية على الأرض، وإخراج النظام من دائرة الاستهداف، وتنسيق الجهود تحت شعار محاربة الإرهاب.
وما يحدث في منطقة الجزيرة السورية اليوم يعكس جانباً ملموساً واقعياً من هذا التنسيق، فالمنطقة تعج بالقوات الأميركية والروسية، إلى جانب قوات النظام، والقوات التركية والقوى العسكرية المحلية التي تستخدم لصالح هذا الطرف أو ذاك. وهناك اتصالاتٌ مستمرةٌ على أعلى المستويات بين الجانبين، الروسي والأميركي، وبينهما وبين الجانب الإسرائيلي من حين إلى آخر، لتنسيق المواقف بخصوص ما يحدث، أو لتنفيذ المتفق عليه. ويبدو أن التوافق على توزيع الأدوار لا يقتصر على سورية، بل يشمل العراق وليبيا ودول أخرى.
ويتمثل الطابع الذي يميز الأوضاع الدولية الراهنة في حروب إقليمية بالوكالة، تشرف عليها القوى الدولية، وهي تستنزف طاقات المناطق الفقيرة أصلاً بفعل شراء الأسلحة، والتدمير الشمولي الذي تتعرض لها بنيتها التحتية. ومنطقتنا اليوم هي ميدان الحرب التي يمكن أن تنتقل مستقبلاً إلى مناطق أخرى، سواء في أفريقيا أم آسيا وحتى أميركا اللاتينية، طالما أن المقدرات والشروط متوفرة، ولا توجد إرادة دولية جادّة لمعالجة أسباب النزاعات والحروب قبل استفحالها. ولكن تبقى منطقة شرق آسيا هي المرشحة أكثر من غيرها لمستجدات دراماتيكية، خصوصا في ظل التنامي المتصاعد للقوة الصينية التي باتت تمتلك إمكانات اقتصادية وتكنولوجية هائلة، إلى جانب الفائض الكبير في الموارد البشرية، كما تمتلك الصين اليوم كل أساليب القوة الناعمة التي تؤهلها للتغلغل في مختلف أنحاء العالم، بما فيها الولايات المتحدة نفسها.
هل سنشهد مرحلة جديدة على صعيد تبدل هوية الدولة العظمى، كما حدث بعد الحرب العالمية الأولى؟ هل ستتقدم الصين على حساب الروس، وتكون هناك اتفاقيات جيدة مع الولايات المتحدة الأميركية، تتجاوز التي ساهم في هندستها وزير الخارجية الأميركي الأسبق، هنري كيسنجر، عام 1972؟ وماذا عن أوروبا التي تعيش مرحلة صعبة من تاريخها، فمشروعها الاتحادي يترنح تحت وطأة الانسحاب البريطاني، وتصاعد نفوذ القوى القومية اليمينية؟ يبدو أن ما أظهره العالم من تضامن دولي خجول مع بدايات انتشار جائحة كورونا لن يستمر طويلاً، بل سنشهد مزيدا من المنافسات بين القوى الدولية الأساسية، من أجل امتلاك مزيد من أسباب القوة، والاستفادة من نقاط ضعف الخصم، والبناء عليها.
إنها مرحلة جديدة قد لا تغطيها استشرافات جورج أورويل؛ ولكنها تظل في طابعها العام هي نفسها. تنافس بين قوى مجتمعية أساسية داخل كل دولة، وتنافس دولي من أجل تقاسم العوالم الفقيرة التي تعيش مرحلة حروبٍ مستمرة، تستنزف الموارد البشرية والمادية، وهذا فحواه قطع الطريق على أي شكل من التراكم المنتج.
العربي الجديد