ثمة عائلات وأسر فلسطينية لا يملّ المرء من تكرار الحديث عنها، ومن التمعّن في فصول سيرتها مع المقاومة والتضحية، والبذل والفداء، دون انتظار مقابل. ومثل هذه العائلات لها بصمة في مختلف مراحل النضال الفلسطيني، إما ببقاء بعض شخوصها ثابتين على مسار الفداء عبر عقود ومهما نالت منهم السجون وتقدمت بهم الأعمار، وإما بتوريث نفَس البطولة إلى أبنائهم وأحفادهم من بعدهم، ليعيدوا سيرة آبائهم.
وعائلة عمر البرغوثي (أبو عاصف) من كوبر قضاء رام الله جمعت بين الحالين، فعمر البرغوثي وشقيقه نائل، من أوائل من قاوموا الاحتلال، ودفعوا عقوداً طويلة من أعمارهم في سجونه، ثم حمل أبناء أبي عاصف الراية، وورثوا العنفوان والإباء والشجاعة المدهشة عن والدهم وعمهم.
ثم صار عاصم البرغوثي رمز هذه العائلة، فقد خرج قبل عامين من السجن بعد قضائه اثني عشر عاما، ولم تمض سوى أشهر حتى عاد لاستئناف مسيرته الجهادية، ونفذ عملية مع شقيقه صالح الذي استشهد بعدها في عملية اغتيال صهيونية، فما كان من عاصم إلا أن أخذ بثأره بعد ساعات من استشهاده، في عملية نوعية وجريئة، وعلى مرأى من كاميرات المراقبة التي ينصبها جيش الاحتلال في كل الطرق الالتفافية في الضفة الغربية.
ذاقت العائلة أهوالاً كثيرة بعد عملية عاصم الثانية، فقد اعتقل أبو عاصف مع أبنائه، ثم اعتقلت أم عاصف، في حين كان عاصم مطاردا، ثم اعتقل لاحقا، وهُدم بيته وبيت شقيقه الشهيد صالح، إلا أن كل هذا لم يكسر في العائلة روح إقدامها، ولا جعلها تتحسر على ما خسرته، أو تنكفئ متراجعة ومتبرمة وشاكية.
وقد قُدّر لي أن ألتقي في سجن الدامون بأم عاصف البرغوثي مطلع العام الماضي، فكانت رفقتها فرصة لفهم كنه هذه العائلة الفذة وسرّ فرادتها وأصالتها، كانت امرأة محبة لبنيها، تشتاق لهم وتحزن على فراقهم، ويوجعها أثر الشوكة في أيديهم، لكنها ما كانت تضنّ بهم عن دروب المواجهة، فكانت أطياف من الفخر والاعتزاز تطوف فضاء عينيها إذا ما تحدثت عنهم، في طفولتهم وشبابهم.
أما أبو عاصف، فظل طوداً شامخاً لا تهزه الريح، ولا تثنيه أحمال الزمن المرهقة، ولا تقلّب أحوال الدنيا وتغير الناس، وانفضاضهم عن المسارات الصعبة، ظل صوته يواسي جراح المكلومين في الضفة، ويشدّ من عزيمة المستضعفين، ويعلم الناس أصول العزة، وكان عارفاً أن السجن سيكون بانتظاره من جديد، وأن تهمة عنوانها (التحريض) ستكون جاهزة لإيداعه مدة طويلة في الاعتقال الإداري.
يدرك الاحتلال جيداً ما الذي يمكن أن تصنعه أنفاس أمثال هؤلاء الناس حين تكون حاضرة في ساحة مستنزفة مثل الضفة، وإلى أي مدى يمكن لصنيعهم ولوجودهم ولكلماتهم أن تستنهض العزائم وتستعيد ما اندثر من بطولات، ولذلك يحرص على تغييبهم في سجونه، وعلى تدفيعهم أثماناً باهظة لخياراتهم العالية، وعلى جعل الأذى يطال دائرة واسعة من أقاربهم وذويهم، لأنه يريد لهم أن يكونوا منبوذين في محيطهم، وغير قادرين على التأثير في من يتطلع إلى فعل النماذج الفذة ليحاكي صنيعها.
لكن موقفاً واحداً كفيل بأن يبطل أثر كل إجراءات المحتل، كذاك الذي شهدناه في الصور التي وثقت محاكمة عاصم البرغوثي قبل أيام، حيث حُكم عليه بالسجن أربعة مؤبدات، تمثل عدد ما قتل من الصهاينة. كان عاصم في هيئته ووقفته ونظرته ولامبالاته بسجانه، وفي حديثه مع المحامين وأمام القضاة، يسطّر موقفاً جليلاً آخر، تابعه عموم الناس باعتزاز، وسجلوا على هامشه مشاعرهم الصادقة، ووعوا دروسه حتى لو لم يقلها أحد بشكل مباشر.
كان عاصم فردا، لكنه حمل هم وطن بأكمله، تشكّل التمرد في عقله وقلبه منذ صغره، وظل يلازمه حيثما اتجه، وعلى أي جنب كان، لم ينتظر من يعلق الجرس، بل أبصر واجباته كلها، وقام بها، مدفوعاً بشهامته ونباهته وسرعة بديهته وحسّ مسؤوليته العالي، وحتى حين تحرر من سنوات سجنه الطويلة وتوقّع الناس منه أن يرتاح قليلا، ظل يبحث في صدره عن مكمن الوجع ومبعث الغضب، وعن اتجاه نفثه حين تنغلق الآفاق، وتستمطر النفوسُ العطشى غيثاً يبدّد جدب احتباس الفعل، وانحسار العطاء النوعي، الذي لا يُنسى ولا يُمحى أثره ولا يموت ذكره.
بمثل هذه الأسر والعائلات نستضيء، ونحن نواجه كل هذا الظلام المتراكم، وكل عوامل التيئيس والإتعاب، في وجودهم وفعلهم ما يكفي لمواساة الموجوعين وإلجام العابثين وبعث أمل المقهورين من جديد.