قائمة الموقع

"المختارة".. امرأة تصنع "المستحيل" في "حقل الرجال"

2020-06-22T11:48:00+03:00

مرَّ أسبوع على زواج العروس هيام –اسم مستعار- حتى جاء والدها وأخذ ما أهدته عائلتها لها ماديًا "النقوط" في مراسم يوم الزفاف، وصل الأمر لزوجها فأرسلها إلى حيث أتت وأعادها لبيت والدها، مصمما -حينما تدخلت "المختارة" سمية الحنفي لحل الخلاف- على موقفه: "فش رجعة إلا إذا رجعت "النقوط" معها".

أما والدها فبرر أخذه للمال استنادًا لعادات قديمة كانت سائدة مجتمعيًا بشراء الأهل قطعة ذهب لابنتهم، وأخذَ على خاطره "الواحد شاري بنت مش مال"، حاولت المختارة إنهاء الخلاف البسيط، لكن تعنُّت العائلتين أفشل جهودها، وانتهت القصة بطلاق الزوجين.

أمام باب المحكمة، وبعد إتمام إجراءات الطلاق، اتصل زوج هيام بالمختارة، مخبرا إياها بما يراه "انتصارا": "طلقتها"، وقبل أن يغلق الهاتف استفزها: "مختارة .. فش حوليك عروس"، فأعادت الكرة إليه مرة أخرى: "في عروس .. بس من غير نقوط" وأغلقت هي الهاتف، وبكت لأنها لم تنجح في إعادة العروس لزوجها.

"المختار" منصب يحظى بمكانة اجتماعية كبيرة في الوطن العربي، ومنها فلسطين، يوازي منصب "العمدة"، حتى أن "المخترة" تتوارث من الأب إلى الابن، وهناك عائلات غزية تُجرى لها انتخابات دورية، والمختار يمتلك ختمًا رسميًا، يُعتمد في عقد القران والمحاكم وفي الصلح، ويكون ذا حسب ونسب.

لكنَّ المختارتين سمية الحنفي من محافظة خان يونس، وفاتن حرب من محافظة الوسطى، وغيرهما من المختارات اللواتي نشأن في أسرٍ بسيطة، واجهن صعوبات أمام منحهن لقب "مختارات"، بدأ الأمر على مستوى عائلاتهن برفض الاسم، تبعه رفض مخاتير لهن أحيانا، كذلك العمل بمجهودهن الذاتي دون تلقي أموال، وتحمل أعباء وتكاليف الإصلاح، فلم يمتلكن عباءة يفردن الجميع تحت جناحيها.

غاب هنا المال ولم يتوفر، غابت كل عوامل القوة عنهن، لكن بقي الهدف ساميًا, والدافع نابع من حاجة "المرأة للمرأة" فاستطاعت "الحنفي" و"حرب" وغيرهما من المختارات كسب قلوب المجتمع، وحظين بمكانة كبيرة، وامتلكن سلاحًا قويًا صنع "المستحيل"، وفُتحت لهن الأبواب المغلقة أمام الرجال.

"مُصلحة" أم "مختارة"..؟! بعيدًا عن الجدل حول الاسم، ننقلك إلى قلب قصص، استطاعت المرأة "المختارة"، إنهاءها وإعادة قطار اللُّحمة الزوجية إلى سكته.

استمعنا إلى تجارِب نساء، دخلنا "حقل الرجال" من أوسع أبوابه، ووصلنا إلى قضايا توقفت عندها جهود المخاتير ولم يستطيعوا اختراقها، نجحت أحيانًا وأخفقت أحيانًا أخرى كما في القصة التي أوردناها سابقا، والإخفاق هنا خرج عن إرادتها.

أول مختارة

سمية الحنفي، تعد إحدى أشهر المختارات على مستوى القطاع وأولهن، اشتهرت بقدرتها على الحل وكسب قلوب الناس، لكن لم يكن هذا وليد اللحظة، في حوارنا معها، بدت متعبة بسبب الإعياء، أضف إلى ذلك حزنها على زوجها المُتوفَى منذ خمسة أشهر، وما زالت آثار الفراق تلاحقها، لكنها لم ترفض اللقاء، فتقول بصوت خافت متعب، حاولت جاهدة رفع نبرته: "كَوني محفظة للقرآن الكريم منذ 2003م، وداعية وواعظة، أكسبني ذلك القدرة على التواصل مع الآخرين"، تعترف: "الكثير من النساء أحببنني كوني "صاحبة نكتة"، فتحن قلوبهن لي، وبعد ذلك حصلتُ على دورة "المختارة" نظمتْها إحدى الجمعيات النسوية".

تقاطع هنا حبها للتعلم والدورات مع هذه المهنة، وبدأت تتدخل في حل المشاكل الزوجية، ومرة عن أخرى عرفها الناس أكثر وأصبحت تُطلب للحل بصفتها الرسمية "مختارة".

"أتدري.." تقول: "حينما تذهب الزوجة لبيت أهلها "حردانة" بعد خلاف زوجي، بالعادة يأتي المختار وينادي عليها في مجلس عائلي: "تعالي يا حرمة شو مشكلتك"، لكنها أمام كل هذا الجمع تُخفي ما تمر به، لكن المشكلة تكون كبيرة وأعمق مما يظنون ولا تتحدث بها إلا لمرأة مثلها، وحينما تعترف لنا بذلك نتدخل بطريقة تجمع الطرفين".

ابتسم صوتها وملامحها المتعبة: "في إحدى القصص – ومثلها كثر – اتصل بي الزوج بعد إصلاح الخلاف، وقال: "زوجتي مبسوطة كتير منك، وإنك وصلتي إلها إني حاكي كلام كتير حلو عنها بجلسات الإصلاح".

تُعلق: "ما عِرف إني كنت أقول لزوجته: "زوجك بيحكي عنك، مرتي فش أحسن منها"، لأرقق قلبه عليها رغم معرفتي بإساءته لها: "مرتك بدها إياك ومش عارفة كيف ترجع".

أمٌّ لسبعة أفراد، ضربها زوجها ضربًا "عنيفا"، تُعلق الحنفي قبل إكمال القصة على "الضرب": "للأسف؛ معظم المشاكل الزوجية أساسها الضرب (...) أقول للرجال "استوصوا بالنساء خيرا"، أين وصايا الرسول لكم بإكرام النساء، ومحبته لنسائه، أين أنتم من أم المؤمنين "عائشة" التي كان يتسابق معها الرسول.. أين ديننا الحنيف من حياتكم؟".

عُقدة وحل

وعادت لقص قصتها تلك: "كان الزوج يضربها بشدة، فذهبت لبيت أهلها لمدة عام، حتى تدخلت جاهدة لإصلاح الطرفين، وكانت الأمور صعبة، لكنني تركت بصمتي بالوقوف عند نقاط الخلل بين الطرفين، وبعد شهر اقتنع الطرفان وعادت المياه إلى مجاريها".

صمتت برهة، أشهقت نفسا عميقا، بعدما جالت عدة قصص في خاطرها، حتى توقفت عند هذه القصة: "وقعتْ في خان يونس، ذهبتُ لإصلاح مشكلة زوجية لمرأة تعرضت للضرب، طرقت الباب ففتح شقيقها، وعرَّفته بنفسي، وقلت له: "جاية أحل مشكلة أختك".

" لم يترك أيَّ كلمة، سب، شتم، وخشيت أن يضربني"؛ تتابع.

ما زالت تروي بعضا من ضريبة عملها، مجسدة تلك القصة: "علا صوته المرتفع ثم خرج إخوته، واستنكروا عليه التهجم على امرأة، وأدخلوني المنزل، وكان الجميع غاضبًا مني، فكسرت هذا الغضب بـ "نكتة فكاهية" حينما وقع نظري على شجرة: "ما أحلى كروم النخيل .. إن شاء الله بدكم تاكلوه لحالكم".

ابتسم الجميع، وبدا قبولهم لي، رغم أن الزوج قد كسر أسنان ابنتهم بضربة منه، للمرة الأولى، فقام والدها بتركيب أسنان أخرى، وقام بضربها وكسرهم ثانية، وقلت في قرارة نفسي "أتمنى أن تُطلَّق من ذلك الوحش"، لأن الطلاق يكون أحيانا أفضل، ولا نتدخل فقط لإعادة المرأة إلى المعاناة بل نحل القضية من جذورها حتى لا تتكرر المشكلة".

مشكلة مركَّبة

أحيانا يكون التدخل في إصلاح قضية حدث فيها "الطلاق" صعبًا، لأن خيوط العودة تكون قد قطعت، لكن كيف إذا كانت قضية الطلاق ثنائية، وهذا ما حدث هنا، تنقلنا الحنفي في قلب تفاصيلها: "حدثت المشكلة في عائلة كبيرة، في قضية بدل (كل شخص متزوج شقيقة الثاني) فهذا طلَّق، وهذا ردَّ عليه وطلَّق، وكبرت المشكلة أكثر، وبعد معاناة، اصطلح الأزواج وذهبنا للمحكمة ووُفِّقتُ في إعادتهما لأزواجهما، ثم اتصل بي رجل، يعاتبني: "صالحتِ الصغار.. تعالي صالحي الكبار".

تُكمل بلا كلل أو ملل: "جمعت النساء لدي، وتركتهن بالبداية يعاتبن بعضهن، وكنت أتدخل قبل أن تخرج الأمور عن السيطرة، ثم طلبت أن نتناول الغداء عند واحدة منهن، وفي حين دخلنَ البيت، استأذنتهن بالمغادرة، وقلتُ لهن: "هيك أنا تطمنت".

ما أهمية دورك في حقل الرجال؟ ابتسم صوتها مرة أخرى: "أكثر مَن يتصلون بي رجال يطلبون حلّ مشاكلهم"، أما المخاتير حينما يرونني أقدِّم نفسي "مختارةً"، يرفضون ذلك بشدة مبررين: "أنتِ مُصلحة ولستِ مختارة""، مضيفة: "نحن لا يهمنا اللقب بقدر إنهاء المشاكل، وأحيانا يتصل المخاتير أنفسهم بنا لحل المشاكل".

وضع اقتصادي صعب

"شعوري بالمسؤولية الاجتماعية تجاه النساء الضعفاء، خاصة أن المرأة قد تنال حقوقها بصعوبة، بسبب العادات والتقاليد التي تكون أحيانا عائقًا قويًا في نيل المرأة حقوقها الشرعية".. كان هذا دافعا لكي تضيف فاتن حرب التي تقطن في محافظة الوسطى صفةَ "مختارة" بجوار اسمها، أضف إلى ذلك تعرض قطاع غزة لعدوانات إسرائيلية متتالية تزايدت معها أعداد الأرامل وحاجتهن لحقوقهن الشرعية.

خلصت حرب، إلى أن الوضع الاقتصادي الذي يعيشه القطاع انعكس على الحياة الأسرية، برغبة الأزواج –أمام الظروف القاهرة – في الخروج من بيوت الإيجار للسكن في غرفة في بيت العائلة، تولَّد عن ذلك مشاكل اجتماعية كبيرة بسبب هشاشة الوضع الاقتصادي العام، مضيفة: "أغلب القضايا التي تدخلنا فيها كانت بين "الحماة والكنة".

لا تُخفي أنها تدخلت فقط في فترة فيروس كورونا لحل نحو 50 قضية خلافات أسرية، تتعلق بالوضع الاقتصادي، والعنف وضرب النساء، وخلافات بين "الحماوات والكنة".

"مختارة.." ماذا يمثل لك الاسم؟ تجيب بعد ضحكة عفوية: "أحلى اسم بحب أسمعه"، متممة جوابها: "ما دام الهدف ساميا، أين العيب أن تكون المرأة مختارة؟ البعض معترض عليه، لكن الأهم هو المصلحة المجتمعية وليس الاسم".

قصة: بعد شجار بين الزوجين، ذهبت "س" إلى بيت والدها، بالمفهوم المجتمعي تسمى "حردانة"، في البداية، رفض زوجها تدخل المخاتير، مصممًا على رأيه: "زي ما طلعت لحالها ترجع لحالها"، قبل أن يتلقى اتصالا هاتفيا من المختارة فاتن حرب، ولأنها مرأة لم يُغلق الباب أمامها كما فعل مع المخاتير، وزادت في طلبها بلطف: "بدك تعزمني على فنجان "قهوة" .. وإحنا بدنا نرجِّع مرتك لعندك معززة مكرمة"، فتح الزوج صدر البيت وعادت اللُّحمة إلى الزوجين.

تقول حرب: " بعض القضايا التي تحدث عليها خلافات، مثل بيع الزوجة ذهبها دون علم أهلها، بالتالي تلجأ لنا لضمان حقها، فنكتب ورقة على زوجها ونكون شهودًا على ذلك، امرأة طلقها زوجها أرادت العودة إليه، لم تستطع البوح بما تريده لمختار، وقبل مغادرتي المنزل وخزتني بهدوء فشعرت أن هناك شيئًا ما، جلست معها وحدي، فعرفت أنها تريد العودة لزوجها، وأعدتها".

"تصلني الكثير من قضايا الاعتداء والضرب ".. ورغم ذلك تحاول حرب التدخل قبل وصول الأمور للشرطة، لئلا تزيد الفجوة بين الأزواج".

"احنا المختارات، نتاج تدريب قانوني وشرعي لمدة سنوات" .. اكتسبَت حرب وسمية الحنفي، وبعض المختارات خبرة الحياة وتراكم التجارِب، عملن في حقل صعب، هو في الأصل حقل يبرع فيه الرجال، لكنهن أثبتن جدارتهن، وأصبحن من الشخصيات الاعتبارية، تُحترم كلمتهن، وتفتح لهن الأبواب، لا يوجد سعادة لديهن أكبر من إعادة عروس لزوجها، حتى جرى اختيارهن عام 2015م، ضمن وفد "الشخصيات الاعتبارية" لإنهاء الانقسام.

 

 

 

 

اخبار ذات صلة