هل يمكنك تصور أنك لا تستطيع دخول أرضك التي تبعد عنك 10 أمتار إلا بالسير لمسافة ساعة، لأن هناك جدارًا عنصريًا يفصلك عنها ويجب عليك المرور من البوابة؟
ذلك عندما تجد نفسك في قلب مستوطنة أنشأها الغرباء وتضطر لتحمُّل ضغط كبير.. يحاولون ترحيلك بشتى الطرق لكنك تبقى صامدًا، ولا تتنازل أو تفرط في ذرة منها، تعيش مراقبًا 24 ساعة، لا تخرج من بيتك أو تعود إليه إلا بتنسيق، كل هذا لا يحدث إلا في قصة عائلة فلسطينية تعاني من مستوطنة جاثمة شمال غرب القدس المحتلة.
من بوابة إلكترونية تتحكم فيها قوات الاحتلال الإسرائيلي، يعبر سعدات غريّب وعائلته إلى منزله الذي بات وسط مستوطنة "جفعون حداشا" الجاثمة على أراضي قرية "بيت إجزا"، وتراقبه الكاميرات على مدار الوقت.
هذا المنزل هو المتبقي من 100 دونم لصبري غريب والد سعدات. بدأت قصة صموده أمام "التغول الاستيطاني" في 1979، سنة إنشاء المستوطنة، ومنذ ذلك الحين فشل الاحتلال بإخلائه منه بشتى الطرق، كما صمد سعدات ووالده وإخوته أمام كل أنواع الترغيب والتهديد، وبقي المنزل -الذي لا يقدر بثمن في نظر أصحابه- شوكة في قلب مستوطنة "جفعون حداشا".
ولم تنحني عائلة غريب أمام عواصف الترهيب، ولم تتمكن المستوطنة من ابتلاع المنزل.
أصل الحكاية
بالعودة إلى أصل الحكاية وفصلها، يقول غريب: "بيتنا مقام على جزء من أرضنا بمساحة 100 دونم، لكن سنة 1979 بدأ المستوطنون في معاينة الأرض كونها تقع على قمة جبل، وعرضوا على أبي بيعها لهم، ومع رفضه عرضوا عليه بيع دونم واحد، ثم وصل الأمر إلى طلب بيعهم 100 متر، لكنه رفض".
أمام رفض صبري غريب، حاول المستوطنون إيقاعه في "فخ" يتمثل في أخذ توقيع فقط للبيع، لكنه رفض وحسم قراره منذ البداية، وقال كلمة بقيت مسجلة له، وأنهت السجال: "لو تدفعوا مال (إسرائيل) في الداخل والخارج، مستحيل أتنازل عن ذرة تراب من أرضي، لأنها ليست للبيع وهي أرض وقف إسلامي".
"إذا ما تعاونت معنا راح تواجهك مشاكل كثير وصعوبات في البيت اللي انت عايش فيه"، بعد هذا التهديد، علا موج الاعتداءات، وارتفع سقف مطامع المستوطنين أكثر: "أحضروا أمر هدم للبيت سبع مرات بعدما صادر الاحتلال أراضي القرية، وكنا نظهر رخصة البيت، ثم بدأت الاعتداءات فصادروا 10 دونمات من أصل 100 دونم، وحاولوا وضع سياج على مساحة 40 دونمًا وفي كل مرة يضعون السياج كنا نرفعه بالليل".
استمرت الاعتداءات، واستمر الصمود، واتجهت القضية إلى محاكم الاحتلال، حيث تمكنوا من انتزاع قرارات منها: أن هذه الأرض تخص عائلة "صبري غريب"، فتصاعدت الاعتداءات.
يقول: بدأ المستوطنون بالاعتداء علينا، وإطلاق النار يوميًا، ورمي الحجارة على المنزل، استعملوا شتى الوسائل والطرق، واستمرت الحال بين قضايا واعتداءات خلال عامي 1979-1994م، أي بعد اتفاق "أوسلو" الموقع بين منظمة التحرير والاحتلال، حيث قررت محاكم الأخير وقف العمل بالقضايا إلى حين استكمال الاتفاق.
تنهيدته هنا بداخلها 100 حكاية من الألم، لكن صوت تألمهم كان يرتد إليهم، لا يسمعه أحد غيرهم، ينبش في تفاصيل جرائم الاحتلال أكثر: "بعد الاتفاق أنزل المستوطنون "الآلات" والبواقر بحماية جيش الاحتلال وصنفوها أنها "أرض دولة" مزعومة، في حين حاول قضاء الاحتلال إظهار نفسه نزيهًا، لكنك ترى في مضمونه أنه أسوأ مليون مرة مما طفا على سطح الماء من جليد الظل، فصادروا 40 دونما وبنوا عليها بيوتا للمستوطنين المتطرفين".
"كان المستوطنون يرهبون أطفالنا بإشهار السلاح في وجوههم، كما أحاطوا البيت من ثلاث جهات ببيوت المستوطنين التي تبعد عن البيت أربعة أمتار فقط، فالبيت مكشوف لهم كليا، تحركاتنا، وخروجنا، وعودتنا، كاميرات تراقبنا، حتى عام 2002م بدأ بناء جدار الفصل العنصري، وهنا صادروا 60 دونما داخل الجدار مزروعة بالزيتون والعنب، يسمحون لنا بدخولها مرة كل عام أو مرتين، لكنهم أبعدوا البوابة المسموح لنا بعبور الأرض إليها مسافة ساعة سيرا بعيدة عن المنزل، وأقاموا بوابة إلكترونية للمنزل يفتحها ويغلقها مركز شرطة الاحتلال".
البوابة الإلكترونية
احتاج لأن يشهق طويلا هنا، ليخبرك عن قصته مع البوابة "الإلكترونية": "حينما وضع الاحتلال البوابة الإلكترونية على مدخل المنزل، وضع عليها كاميرات، وأنت تسير على طول المدخل تحيط بك من كل جانب، نُراقَب 24 ساعة".
"في 2009 منعني الاحتلال من الخروج من المنزل مدة ثلاثة أشهر"، يتابع: "إلا من خلال الاتصال باللجنة الدولية للصليب الأحمر لعمل تصريح للخروج، وطلب منا الاحتلال أن يظهر أي فرد يريد الخروج أو العودة صورة الوثيقة الشخصية "الهوية" للكاميرات لفتح البوابة، قبل أن نتمكن من الحصول على حكم يقضي بإبقاء البوابة مفتوحة طيلة الوقت".
أمام هذه التطورات استدعى محقق شرطة الاحتلال سعدات..
المحقق يسأل: "بدي أسالك: عرضوا عليك تبيع البيت؟"، "بالفعل، عرضوا" يرد سعدات، لكن المحقق الذي يجيد اللغة العربية عرض شيئًا مختلفًا: "بدي أعطيك مبلغ بسعر اليوم، وجواز سفر، والمبلغ الذي تريده سيتم توفيره لك، وخذ من عيلتك اللي بدك إياه وحدد الدولة اللي تناسبك، وما تضل بين المستوطنين والمشاكل"، لكن سعدات لم يرث الأرض عن والده فقط بل ورث الثبات، فاستحضر كلام والده في رده: "لو تدفعوا مال (إسرائيل) في الداخل والخارج ما حبيع البيت".
ويتشبث سعدات بالبيت الذي لا يكفي لإيواء عائلة واحدة، ويدافع عن 60 دونما ابتلعها الجدار، ويحاول حرثها وزراعتها كلما سنحت الفرصة حتى لو مرة واحدة كل عام.
متاعب يومية
كيف تعيش حياتك اليومية؟! تنهد قبل أن يجيب وكأن في صوته مسيرة طويلة من المعاناة: "لك أن تتخيل أنهم استخدموا معنا كل الأساليب، عندما يشاهدون أبنائي يلعبون يسبونهم، ويشهرون السلاح أمامهم، وأنت جالس فوق سطح البيت مع زوجتك يظهر لك مستوطن ويتعرى أمامك؛ لأنهم يعرفون أننا محتشمون، يحاولون إخراجك بالقوة والمال، وإغلاق البوابة... في إحدى المرات أطلقوا على سيارتي نحو 15 رصاصة تحديدًا على خزان الوقود.. وحمدا لله أنها لم تنفجر".
لكن لهذه الجريمة تداعيات ما زالت آثارها قائمة، فتلك الجروح التي سببتها يعاني منها سعدات حتى اليوم: "في أثناء عمل الاحتلال بالجدار تعرضنا لهجوم من المستوطنين ودافعنا عن أنفسنا، فجاء جيش الاحتلال واقتادني تحت سور بيت المستوطِن، ومن ارتفاع أربعة أمتار ألقى "قوار" ورد مليئًا بالرمل على رأسي، وصرت أواجه مشكلات في الدماغ وغضاريف في الرقبة".
"أدخل أرضي مرة في السنة لقطف 250 شجرة زيتون، وكروم العنب والحمضيات، بشعور المقهور الذي لا يتحكم بأرضه، لكن أملنا بالثبات أن هذه الأرض لا يعمر بها ظالم... مستعد للتضحية ليبقى البيت شوكة في حلق المستوطنة"، بتلك الرسائل يتجذر سعدات بأرضه.
وسعدات يداهمه خطر مستمر، يشرحه بقوله: "الاحتلال سلم مفتاح البوابة للمستوطنين، ونخشى أن يتكرر ما حدث، بإحراق منزل عائلة دوابشة، لكن في النهاية علينا المحافظة على الأرض".
يعيدك إلى تفاصيل الألم الذي يعيشه: "حينما نجمع المحصول نحمل "الشوال" (ظرف كبير) على أكتافنا، وإن سمحوا لنا بإحضار حمار أو حصان للمساعدة، فنضع أكياسًا عدة على جانبيه، ويساعدنا بعض العمال، ونجرها ونحملها بمشقة كبيرة".