في ظل الغياب العربي ثلاث قوى إقليمية تتنافس فيما بينها على بسط السيطرة على المنطقة، ولكل قوة أنصارها، ولكل قوة أطماعها في ابتلاع المنطقة العربية، والانتشار من خلالها إلى العالمية، والنفوذ الفكري والمادي الأوسع.
أولى هذه القوى هي إسرائيل، التي حلمت بتأسيس قاعدة انطلاق لها على أرض فلسطين، وقد نجحت في ذلك، وحلمت في توقيع اتفاقيات سلام مع الأنظمة العربية والفلسطينيين، وقد تحقق لها ذلك، وحلمت بالتطبيع مع بعض الدول العربية فامتد نفوذها حتى دول الخليج، وهي تسعى اليوم إلى إدارة الوعي العربي من خلال غرف تحكم خاصة في تل أبيب، وتقدم نفسها أنها الحليف القوي القادر على تثبيت أنظمة الحكم في البلاد العربية، والكفء لدعمها وإسنادها في مواجهة القوى الإقليمية الصاعدة.
وثانية هذه القوى إيران، التي نجحت إلى حد ما في تأسيس قواعد جماهيرية وعسكرية لها في بلاد العرب، امتدت من العراق حتى البحر المتوسط والبحر الأحمر، وإذا كانت إيران قد حلمت في إقامة إمبراطورية تستند إلى تحالف دول إسلامية عدة، تكون لها الكلمة العليا في المنطقة، وتتصدى للهيمنة الإسرائيلية، والسطوة الأمريكية، إلا أن هذا الحلم الإيراني قد اصطدم بصخرة التحريض الإسرائيلي، الذي نجح في تحويل الخلاف الطائفي بين سني وشيعي إلى صراع عميق الجذور، تفرعت منه حالة من الشك والفزع بين البلاد، وهذه الطائفية شكلت الذريعة لبعض الأنظمة العربية كي تتقرب من إسرائيل علانية، وتتحالف معها سراً.
وثالثة هذه القوى تركيا، التي واتتها الفرصة الاقتصادية للتمدد في بلاد العرب، وفرضت عليها الجغرافيا السياسية أن تتدخل في بلاد الشام والعراق، وأن تزاحم في صناعة القرار، وقد لاحت لها فرصة سياسية لتتقدم خطوة باتجاه شمال إفريقيا، وهي في حرب مفتوحة مع تحالف دول عربية وغربية، ناظم مصالحها مستقبل العلاقة مع إسرائيل، التي وظفت أذرعها الإعلامية ضد تركيا، وجعلت منها شيطاناً أسوأ من شياطين إيران الطامعين بالمنطقة، وإذا كانت الدعاية الإسرائيلية قد نجحت في شيطنة إيران الشيعية، فإن أجهزة الإعلام الإسرائيلية نفسها لم تجد سبيلاً لشيطنة تركيا إلا من خلال الطعن بالخلافة العثمانية، ومن ثم الطعن بتاريخ خلفاء الدولة العثمانية أنفسهم، حتى صار الخليفة محمد الفاتح هو الإرهابي، وهو العدو الأول للدول العربية، ليصير نتنياهو هو الإنساني والحبيب والصديق للأنظمة العربية، وقد صار السلطان سليم الأول هو القاتل والإرهابي الفاجر، وصار شارون ومناحيم بيجن وشامير هم رجال السلام، وهم موزعو الأمن على بلاد العرب مع حليب الصباح.
إنه الصراع السياسي الذي أدركت أبعاده تركيا وإيران مبكراً، لذلك تجاوزت الدولتان الخلافات الطائفية بينهما حين عدت الدولتان إسرائيل العدوَّ الإستراتيجي لكل دول المنطقة، وأن إسرائيل الدخيلة لا ترى في الدول العربية إلا سيفاً صدئاً تجرده للطعن بتركيا وإيران.
الصراع بين القوى الثلاث سيظل قائماً، والمعارك الدائرة على أرض العرب لن تحسم سريعاً، بل ستشهد بلاد العرب المزيد من نزف الموارد والدماء الهادف إلى إشغالهم عن عدوهم الحقيقي محتل أرضهم، ليشتبكوا في حرب عبثية مع إيران مرة، ومع تركيا مرة أخرى.