قائمة الموقع

​"الختيارة" الجبَّارة

2017-04-05T08:39:10+03:00

بجانب أعواد القصب الطويلة تقابلنا، تلسعُنا أشعة شمس العاشرة، وعلى فرنيّ طينٍ مقوّسين، باردين ومعروضين للبيع جلسنا بلا ثبات، نرتشف القهوة في ضيافة الحاجة مريم النجار من بلدة خزاعة شرق مدينة خانيونس.

تهتزّ أوراق القصب فتتساقط معها القَصَص، فواحد وثمانون عاماً، قضتها الحاجة متنقلةً بين الأماكن، حيث يجذبها الرزق والحياة.. أعوام طويلة لم تضمن لها استقراراً يليق بثنايا وجنتيها وجبينِها وكفّيها الباردتين، أمام ملامح وجهِها تُروَى الحكايا وتبوح السنون.. حبّ وحلمٌ وكدّ ووجع.

تقول لـ"فلسطين": كنت طفلةً أمسك العصا بمرح، فهي أنيستي وعكّازتي التي تزيد على طولي متراً، أهشّ بها الأغنام والأبقار، ثم أتركها تقتات العشب الطريّ وأنا أراقب حركة فكّها وخشخشة الأعشاب داخله، كان ذلك بعد أن هجرّ المحتلّ أهالي قريتها "السّلَمة" عام 1948، فكان مستقرّها "خانيونس".

كانت الحاجة مريم تعشق العمل منذ سنيّ عمرها الأولى، فترعى الماشية وتحلبها وتشارك والديها في بيعها وتوفير قوت يومهم.

كبرت مريم وهي تحلم بالدراسة، حتى أنهكها العمر والعمل وتركت التفكير في الأمر "في عمر الابتدائية ذهبتُ وحيدةً لأسجل في مدارس الوكالة، أحلم بالكتاب وأشمّ رائحته، لكني لم أحصل على ما تمنيت، لقد منعوني، الله يسامحهم"، تقول بلامبالاةٍ يمتزجها الأسف.

عاشت سِنِي عمرها تاركةً الأمر لله كلّه، كأنها الرجل، إلى جانب الرّجل، لا شيء بعيد المنال أو صعب التحقيق، تعلّق :"لم يكن أمامي خيار، أنكش الأرض وأعزق البذور وأرشها بالماء ومع زوجي أحصد الثمر، لم تكن أمامي لحظة فراغٍ كي أسرح في وجه القمر".

أفران الطين

مرّت السنُون وضاقت الحياة، فانتقلت لصناعة أفران الطين، شعرت أنها قادرة على صناعتِها فلم توفّر جهداً أو وقتاً، تقول وقد اعتمدت على يديها في توضيح الصورة: "في قفةٍ على رأسي كنت أحمل أكوام الطين الثقيل ثم أعود للبيت مشياً لعجنِها بالتبن وصناعة الأفران"، طيب كيف تحصلين على الطّين؟ تبتسم وتنظر للفراغ:" كيف يعني؟! كنت أبحث عن أرض طينية وأحفرها "بالطُّرِيَّة"".

ثلاثة أيام تقضيها الحاجة مريم في صناعة فرن الطين الواحد، تضع طبقةً فوق طبقة وأخرى بعد أن تجفّ وتصبح جاهزةً للوقدِ والخبزِ، تبيعه لتحصل على ما يقارب الـ (70 ) شيقلًا.

وبالرغم من الألم الشديد في كتفِها وذراعِها إلا أنها حتى اليوم تمارس صناعة الأفران، تعجنها بيدٍ واحدة وتعبٍ شديد، تُعبّر: "مَفِش حلّ، بدي أعيش وأصرف على نفسي، فكلّه يهون أمام مدّ اليد للناس".. قبّلت يدَها التي رقّ فيها الجلد وبرزت الأوردة وقلت لها: "تلك اليد الكادحة لن تُمدّ للناس، فالله يرعاكِ"، ودّعتها وشكرتها على طيبِ قهوتِها البيتية، وما تزال رائحة تراب خزاعة تطاردني.

اخبار ذات صلة