فلسطين أون لاين

تقرير "مرمرة".. القصة التي لا تنساها ذاكرة الفلسطينيين والمتضامنين

...
غزة-يحيى اليعقوبي

قبل جريمة الهجوم كانت هناك قصة أخرى تدور حول تجهيز المعونات الإنسانية والمستلزمات الطبية لقطاع غزة، بذل فيها ناشطون عرب وأجانب وبرلمانيون جهدا كبيرا في جمعها لمد غزة بشريان حياة بعد مرور ثلاث سنوات آنذاك على تشديد حصار الاحتلال للقطاع.

تلك التفاصيل والأحداث لم تمحها الأيام والأعوام الـ10 التي مرت منذ تلك الحادثة من ذاكرة من عاشوها، ورأوا المسافة الحقيقية بينهم وبين الموت، رغم أنه لم يخطر ببال المتضامنين الأتراك، الذين كانوا في ليلة 31 أيار/ مايو 2010 يقطعون عباب البحر على متن سفينة "مافي مرمرة" التي كانت تقود أسطول الحرية، أنهم سيواجهون القتل بنيران قوات الاحتلال.

ذاكرة المتضامن الكويتي عبد الرحمن الفيلكاوي الذي شارك بسفينة "مرمرة" تستحضر التفاصيل في الذكرى العاشرة لجريمة اعتداء قوات الاحتلال الإسرائيلي على السفينة.

يستهل فيلكاوي حديثه مع صحيفة "فلسطين"، عائدا إلى ما قبل انطلاق الرحلة بأيام، فيقول: "كنا نجهز لقافلة مساعدات كبيرة للقطاع المحاصر، آنذاك كان قد مر على تشديده ثلاث سنوات، فبدأنا في حملة جمع التبرعات في الكويت ونأخذ الفكرة كاملة عن المشاركة".

شروط صعبة

وصلت التعليمات النهائية من هيئة الإغاثة الإنسانية التركية (İHH)، وكانت شروط المشاركة أن يتحمل المشارك المسؤولية عن نفسه ويستطيع جمع قدر معين من التبرعات، يردف: "بذلنا جهدا كبيرا واستطعنا جمع التبرعات وانطلقنا من الكويت على متن سفينة سمّيناها "بدر".

بعد اكتمال المبلغ تحرك الفيلكاوي ومن معه، وأبحر إلى تركيا على متن سفينة "بدر"، يستذكر تلك اللحظات: "حظينا باستقبال كبير من الأتراك، ثم اجتمعنا لأول مرة في إسطنبول، وعقدنا لقاءات رسمية ومقابلات صحفية مع أكثر من 100 قناة جاءت للمشاركة بالفعاليات والمؤتمرات التي عقدناها، وبدأنا التجهيزات النهائية ثم انطلق المشاركون القادمون من 50 دولة من اسطنبول نحو مدينة "أنطاليا".

يتوقف هنا قليلا: "رست السفينة في أنطاليا وبدأت تزيد الألفة والمودة بين المشاركين، حتى جاءت السفن المشاركة من الدول الأوروبية وكانت تحمل برلمانيين أوروبيين، ثم قررنا الإبحار على متن سفينة "مافي مرمرة" في 25 مايو/ أيار 2010م، محملين بمساعدات طبية وألعاب أطفال وأجهزة لذوي الإعاقة".

أبحرت السفينة التي تشبه الباخرة وعلى متنها أكثر من 500 ناشط ومتضامن أغلبهم أتراك، وثلاث سفن أخرى تابعة للحملة الأوروبية لرفع الحصار عن غزة .

لكن كيف وزع هذا العدد داخل السفينة؟ يجيب فيلكاوي مستعيدا ما جرى معهم: "بدأنا بتوزيع المشاركين، بعضنا جلس داخل السفينة وبعض خارجها، وأشخاص بالأسفل".

أيقونة الرحلة

مثلت "مرمرة" لفيلكاوي وغيره أيقونة الرحلة، ومثلت مصنعا متحركا شهدت حياة عجيبة، يعيش تفاصيلها مرة أخرى لكن هذه المرة من وحي ذاكرته الحية بالتفاصيل والأحداث، قائلا: "لم تكن الرحلة مجرد ركاب ينتظرون الوصول لغزة، بل عشنا حياة وانشغلنا طوال الوقت في الصلاة، والتعارف، والاستماع للدروس الدينية، والتدارس في العلم".

من المواقف والمشاهد التي لا ينساها فيلكاوي، تسابق المشاركين في توزيع الأكل والوجبات، واستماع وطاعة الأتراك لقائدهم، وهكذا سار الأسطول إلى أن بدأت ملامح هجوم الاحتلال، وبدأت إدارة الأسطول تنسق بين المشاركين لأخذ الحذر، يقول: "بدأنا الإعداد ووضع خطة للتصرف إذا وقع الهجوم، لأننا قبل المشاركة توقعنا أن نتعرض له ووضعنا خيارات عدة حال حصوله".

وكان ذلك، رغم أن الأسطول طبق كل الشروط القانونية، وهو يحمل مساعدات إنسانية وطبية، ذاهبة لإغاثة منطقة منكوبة محاصرة بأهم المواد للحياة.

ليلة الهجوم؛ حينما تعيد سرد تفاصيلها مع شخص عاش أدق تفاصيلها، وشاهد قوات الاحتلال الخاصة وهي تقتحم السفينة من الطائرات المروحية والسفن والبوارج، وتضرب وتنكل وتطلق النار، فإن الحديث يكون مؤلما، وهذا ما بدا واضحا في نبرة صوت الناشط الكويتي، فيقول: "كانت الليلة عجيبة، وزعنا أنفسنا لمنع دخول أي إنسان غريب إلى الأسطول، أنزلنا النساء وكبار السن للأسفل، والشباب في الأعلى لحماية السفينة، والجميع كان يصلي ويتضرع بالدعاء".

لا تفر تلك التفاصيل من حديثه: "الساعة الحادية عشرة مساءً أبلغنا من إدارة الأسطول، أن نتجهز، ووزعنا أنفسنا، والكل كان يدعو ويصلي ثم باغتتنا قوات الاحتلال باقتحام السفينة بعد صلاة الفجر وانهالوا بالضرب، وإطلاق النار علينا، واستشهد عشرة أتراك، كانت لحظات صعبة لا يمكن نسيانها".

"نصب" يخلد الذكرى

ما إن تصل مرفأ ميناء الصيادين بغزة، تجد أمامك نصبا تذكاريا يخلد ذكرى شهداء سفينة "مافي مرمرة" التي كانت شاهدة على جريمة دارت رحاها في عرض البحر، في أسفله نقشت أسماء الشهداء الأتراك لكنها قبل ذلك شيعت في قلوب أبناء غزة ونقشت في قلوبهم. من بين أسماء الشهداء العشرة: فرقان دوغان، وجودت كيليتشلر، ونجدت يلدرم، وإبراهيم بيلغن، وعلي حيدر بنجي، وجنغيزاك يوز، وجنغيز سون جور، وتشتين أوغلو، وتوحَّد في أسفل النصب العلمان التركي والفلسطيني، كما توحدت دماء المتضامنين على متن سفينة "مرمرة".

حينما تمر من أمام النصب يجبرك هذا الصرح اللافت للأنظار على تذكر الحادثة ومحاولة البحث عن تفاصيلها مرة أخرى ومعرفة من هؤلاء الشهداء الذين ضحوا بدمائهم لأجل مد غزة بشريان حياة حاول الاحتلال الإسرائيلي قطعه عنها بحصاره الطويل.

أمام النصب يجلس مجموعة من الصيادين تحت لهيب الشمس الحارقة، الساعة الثانية عشرة ظهرًا ينتظرون خروج سفن من البحر، أحد الصيادين الذي طلب عدم الكشف عن اسمه، نقل لصحيفة "فلسطين"، تفاعل الأسرى داخل سجون الاحتلال مع جريمة الهجوم على السفينة في أثناء أسره الذي دام خمس سنوات، فيقول: "كنا نتتبع مسار السفينة عبر بعض القنوات التلفزيونية المسموح لنا بمتابعتها داخل السجن (...) وحينما تم الاعتداء على السفينة سادت حالة توتر داخل السجون، وكان الأسرى غاضبين".

ماذا يمثل لك النصب التذكاري؟ استدار بنظره إلى الخلف وأتبع نظرته بكلمات عبر فيها عن تضامنه وحبه للشعب التركي قائلا: "هؤلاء أناس ليس لهم ذنب .. وهذا النصب وسام شرف لنا".

بجانبه يجلس الصياد "أبو رشدي" الذي فضل عدم كشف هويته، لكنه يرسم المشهد والصورة اللذين بدا عليهما مرفأ الميناء قبل الهجوم، فيقول وهو يشير إلى الساحة الفارغة حوله: "نصبت هنا خيام، وجاء الآلاف من أبناء غزة لاستقبال السفينة، وانتظروا حتى ساعات المساء من يوم الهجوم وكانت أعداد المستقبلين كبيرة، لكن الاحتلال هاجم السفينة فجرا، واعتدى عليها، ومن ثم أعلنّا الحداد ثلاثة أيام/ ولم ننزل نحن الصيادين إلى البحر".