قد لا يكون من المبالغة القول إن إحدى مآسينا كفلسطينيين بدأت منذ أن دخلت مفردة (التنسيق) إلى واقعنا، لأن هذه المفردة التي تبدو ذات دلالات إدارية راقية استبطنت أخسّ الأعمال وأخطرها على الفلسطينيين، بداية بكارثة التنسيق الأمني، وانتهاءً بما يعرف بصفحة (المنسق الإسرائيلي) لأعمال الاحتلال في الضفة الغربية، على صفحات التواصل الاجتماعي.
لم يملك الفلسطينيون حتى الآن التخلص من لعنة التنسيق الأمني وتوابعها، ورغم ادعاء السلطة وقفه مؤخرًا إلا أن تجلياته الأخطر ما تزال وستظل ماثلة على الأرض ما بقيت السلطة، أي حفاظها على حالة الهدوء في الضفة ومنعها (العنف) أي عمليات المقاومة خفّت أو ثقلت، وهو عين ما تريده "إسرائيل" من كل كيان السلطة وأهم مبرر للإبقاء عليها.
أما مع صفحات (المنسق) وقادة جيش الاحتلال الناطقة بالعربية، والتي تدعي أن الغرض من إنشائها تسهيل حياة الفلسطينيين ومساعدتهم ومتابعة الإجراءات الخدماتية والمدنية المقدمة لهم، فقد انطلقت حملة قبل يومين تدعو لمقاطعة هذه الصفحات نهائيًا والامتناع عن متابعتها والتفاعل مع منشوراتها، واللافت أن حملة الدعوة للمقاطعة حققت نجاحات ملموسة، على صعيد انخفاض التفاعل مع تلك الصفحات الصهيونية الناطقة بالعربية، إضافة إلى التوعية بمخاطرها وأهداف إنشائها، وكيفية استخدامها أداة للتجسس على الفلسطينيين وتزييف وعيهم وتجنيد بعضهم لصالح جهاز الشاباك الصهيوني بطرق شتى باستغلال حاجة الناس حينًا أو غفلة بعضهم حينًا آخر، وتهاونهم في تقديم ما قد يطلب منهم من معلومات حول محيطهم الاجتماعي الضيق أو الواسع.
هناك شريحتان أساسيتان يندرج فيهما متابعو هذه الصفحات من الفلسطينيين، الأولى من يتابعونها بغرض ما يظنونه استفادة من معلوماتها والتسهيلات التي تقدمها من تصاريح للعمل ونحو ذلك، وهؤلاء يصبحون مع الوقت متعايشين مع حالة الاحتلال، ويعدونه شيئًا عاديا، وهو أمر يمكن مطالعته في التعليقات على بعض أنشطة الإدارة المدنية الصهيونية في الضفة كشق الطرق ونحوها، وهي تعليقات شاكرة وممتنة، لكنها مخزية إذا وضعت في ميزان الإطار الوطني العام الذي يحدد شكل العلاقة مع المحتل ومعاييرها.
أما الشريحة الثانية فتتابعها بغرض الرصد والاطلاع وتفنيد أكاذيب المؤسسة الأمنية الصهيونية ودعاياتها، وهو أمر يمكن أيضًا ملاحظته في التعليقات المهاجمة لهذه الصفحات والقائمين عليها، والرد على افتراءاتهم، لكنه في المحصلة تفاعل غير محمود لأن نتيجته زيادة اشتهار ورواج تلك الصفحات، وزيادة التفاعل عليها، وهو من أبرز أهداف إنشائها، فلن يضير المخابرات الصهيونية أن تشتمها مئات التعليقات فيما صفحاتها تستقطب أعدادًا كبيرة من الفلسطينيين والعرب.
إن المقاطعة الشاملة لهذه الصفحات تبقى الأسلم والأصح، فالاحتلال لا يقدم خدمات مجانية، والمتفاعلون على صفحاته سيكونون عينة ملائمة للدراسة ومعرفة أصحاب الحاجة ومن لديهم نقاط ضعف معينة، ثم لمحاولات الاختراق، فضلًا عن أن التفاعل على صفحات تديرها المؤسسة الأمنية الصهيونية يمكن أن يكسر شيئًا فشيئًا حالة العداء تجاه الاحتلال، ولعلّ جمهور الضفة الغربية والقدس تحديدًا أحوج ما يكون لأن تظل مفاهيم المقاومة بمختلف مستوياتها ناضجة في وعيه.
ثمة من يقلل من أثر الحملة وجدواها متعللًا بحجج شتى أو مستحضرًا أولويات أخرى، وإن كان بعض تلك الآراء ينطوي على وجاهة، فإن إطلاقها في ذروة الحملة ذو أثر سلبي في المجمل، ومحرض على السلبية واللامبالاة، ومستهين بأثر النفَس الجماعي لمثل هذه الحملات، وما يمكن أن تصنعه، ولو على صعيد الوعي، وذلك أضعف الإيمان.
غير أن الأثر الفعلي لحملات الحض على مقاطعة الاحتلال يتجاوز صياغة الوعي، بدليل الانزعاج الكبير الذي أبدته وسائل إعلام إسرائيلية من مثل هذه الحملات، ووصفها بالعدوانية والخطيرة. ذلك هو أثر الفراشة، فعل تراكمي ومستمر، يبدأ من الرهان على الوعي في حالتنا الفلسطينية، ومن تشكيله بما يلبي متطلبات شكل العلاقة مع هذا المحتل، أي علاقة المجابهة والمقاطعة والرفض.
وكما قال محمود درويش: "أثرُ الفراشةِ لا يُرى.. أثرُ الفراشة لا يزول".