فلسطين أون لاين

بـ"كُشان" عمره 72 عامًا.. الحنين يشد اللاجئ "بنات" إلى "عروس البحر"

...
غزة/ يحيى اليعقوبي:

مرّت (19 عامًا) مذ حط قدميه أمام منزله في "يافا" بصحبة ابن عمه، بعدما قطعا مسافة طويلة ليصلا إلى المدينة.. صمت أمام المشهد وتزاحمت بداخله أسئلة عديدة لا إجابات لها؛ ليخرج من حيز الزمان إلى أصوات القذائف.. إلى المسير الطويل على الطريق الساحلي، حينما انهالت عليهم قبل (72 عامًا) حيث تركت النكبة أثرها في كل شبر  من أراض فلسطين التاريخية.

خرج من هذا كله وسأل ابن عمه الذي كان أكثر وعيَّا بالنكبة وظروفها منه: "وين بيتنا؟"، فرد عليه بعد أن ربت يده على كتفه, مشيرًا بيده متحدثا بهدوء: "شايف تلك الأبراج الجديدة، هذه البنايات أقيمت على بيتكم يبدو أنهم أزالوه".

نظر الحاج عوض بنات "أبو خالد" الذي يطرق الآن الخامسة والسبعين من عمره، إلى تلك الأبراج وفي صدره حزن عميق فقد كان يمني نفسه برؤية البيت القروي الجميل الذي لطالما حدثته والدته عنه فحفظ كل تفاصيله وطبع صورة أفسدها الاحتلال.

يعايش الحاج بنات هذا الموقف في طريق عودته إلى غزة حيث كان يعمل في مطبعة داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة، ولا يزال الحنين يشده إلى ذكريات لم يعِ كل تفاصيلها حينما ترك يافا في الثالثة من عمره.

ويحتفظ "بنات" بورقة قديمة داخل ظرف "نايلون" صادرة عن حكومة عموم فلسطين في 7 يناير عام 1946م، وهي "كشان" أرضه البالغ مساحتها (750) مترًا، ليؤكد تمسكه بها، وأنه سيعود إليها في يوم من الأيام.

نكبة وتهجير، وحق عودة، وارتباط متجذر.. هي ذكريات مبادئ وثوابت وتفاصيل يتمسك بها،  تنطق التعرجات التي ترسم طريقها في وجهه حكاية طويلة من الكفاح والمقاومة عاصر خلالها النكبة عام 1948م.

عادت صحيفة "فلسطين" في حديثها مع بنات إلى ما قبل 72 عاما استمعت إلى روايته كشاهد على النكبة، فيقول: "بالنسبة لي كان عمري ثلاث سنوات فقط لحظة التهجير، ولم أع تفاصيل ما جرى، لكن والدّي حدثاني عن قصة اللجوء، حينما جاءت العصابات الصهيونية ونصبت مدافعها بمنطقة مرتفعة بمحيط يافا تسمى "بيت فيقان" وبدأت تقصف عشوائيا بيوتنا، كان الناس يهربون من الموت، لم يأخذوا حتى فرصة أخذ امتعتهم، وأغراضهم بعضهم هاجر باتجاه لبنان وسوريا والبعض باتجاه غزة، أما نحن فأخذ والدي كوشان الأرض ووسادة بها ريش طيور التي استمريت بالمحافظة عليها حتى الآن، وذهبنا باتجاه المجدل".

تغافله ضحكة تهكم على ما جرى: "بدأنا الهجرة، وأخبرنا أن هجرتنا ستكون لمدة أسبوع على أن نعود إلى يافا، بعد أن تحرره الجيوش العربية، مر الأسبوع والسنة والسنوات و72 عاما ولم نعد، فعشنا كذبة كبيرة".

بعد مسير طويل، وصلت قوافل المهاجرين من يافا، إلى مدينة "المجدل".. هناك كانت بعض المواقف المحفورة بذاكرته، وكأنها حدثت اليوم يرحل بصوته الهادئ لما جرى: "كان أخي يلعب في المجدل مع ابن عمي، لكن طائرة إسرائيلية ألقت عليهم قذيفة وأصيبا، وجرى نقلهم إلى مشفى بمدينة غزة، لم يعرف أهلي أين هم، وظل مصيرهم مجهولا لمدة شهرين، لا نعرف أين ذهبوا، اختفت آثارهم وأخبارهم، كان والدّاي يبحثان عنهما دون جدوى، حتى هاجمت العصابات الإسرائيلية "المجدل" وهجرنا إلى غزة، وهناك عرفنا أنهم بالمشفى وارتدت الفرحة إلينا".

يعلق على رؤيته منزله بعد (19 عاما) من الهجرة: "حينما أخذني ابن عمي معه، وعرفني على مكان بيتي الذي بني على انقاضه أبراج بعد ازالته، وبجانبه مصانع للمسامير، و"البيرة"، شعرت بالألم مع تغير كل المعالم (..) وقتها كان لدي مطبعة بغزة وكنت أحتاج ورق "كرتون" من الداخل المحتل، وفي كل مرة أذهب إلى هناك يوميا أو أسبوعيا كنت أذهب في طريق ذهابي وأقف أمام بيتي، وفي طريق عودتي أمر من أمام المنزل لأبقي ذكراه حية في قلبي".

ولا يزال بنات يعرب عن تمسكه بأرضه، قائلا: "حقنا لا مناص به، ولا يمكن التنازل عنه، فالأرض كالعرض، لقد رأينا الويلات في رحلة الهجرة حتى وصلنا مخيم البريج وسط قطاع غزة، وهناك لم يتركنا الصهاينة وشأننا، وكانوا يأتون ويعتدون علينا، ويسرقون الطيور، والمركبات، ويصادرونها، فغادرنا إلى العريش في سيناء هربنا من الموت والقتل، وعدنا بعد ذلك، كنا نرى افراد تلك العصابات، بملابس بالية ممزقة يسرقون ويقتلون، ولم يتغير واقعنا إلا عندما أصبح لدينا مقاومة، وصار "الكف بكفين".