وباء التطبيع الذي يجتاح المنطقة العربية بشكل سافر واستفزازي أكثر خطورة وكارثية من وباء كورونا، حيث مَوجة الأخير في طريقها إلى التراجع والانحسار، وصولاً للقضاء عليها، كما نجحت البشرية في مواجهة أوبئة وجائِحات أخرى كالطاعون والإيدز والجدري والايبولا وسارس وإنفلونزا الخنازير والطيور، أما آثار التطبيع فستكون أكثر فداحة، لأنها تمسّ نسيج الأمة وتاريخها، وتطيح بالكثير من عوامل صمودها واستمرارها، في ظل الموجة الراهنة من الحروب الجديدة التي تقودها الإمبريالية الأميركية والحركة الصهيونية، على نحو يُنذر بما هو أخطر من مجرد "تعريب" وباء التطبيع.
لقد وجد المطبّعون الجُدُد فرصة أخرى لتمرير مخططهم الخبيث، مع انصراف العالم والعرب إلى مواجهة كورونا والتحسّب من الآثار الكارثية التي تركها – وسيتركها – هذا الوباء الخطير الذي اجتاح المعمورة، وأيضاً في ما يُضفيه شهر رمضان وطقوسه المعروفة من أجواء اجتماعية وعائلية خاصة، الأمر الذي أعاد إلى صدارة الاهتمام محاولات نفر ضالٍّ ومُضلّل من الأمة خرق المُحرّمات الوطنية والقومية والمضي قُدماً في محاولاتهم المشبوهة لتقديم الرواية الصهيونية الاستعمارية الاستيطانية العنصرية، ودفن الرواية الفلسطينية، التي استطاعت رغم مرور أكثر من قرن على الهجمة الصهيونية العاتية التي اجتاحت فلسطين والمنطقة العربية أن تصمد وتتعمّق في وجدان الشعوب العربية كافة, رغم مؤامرات بعض الأنظمة التي تقود الآن قطار التطبيع "الشامل" مع العدو الصهيوني، ما أربك خططهم وإن كان لم يُفشِلها حتى الآن.
يعد مسلسل "أم هارون" أول عمل تطبيعي جماهيري مباشر بين متابعي المسلسل والاحتلال، حيث كشف المسلسل والجدل المصاحب له عن عدد من العيوب ونقاط الضعف التي تعتري مجتمعاتنا العربية، وأزاح الستار عن مدى حدة وخطورة التناقضات المتراكمة تاريخيا في بنية هذه المجتمعات وتحديدا ذلك التناقض بين "القومي" و"الديني"، وهو التناقض الذي أنتجته عوامل كثيرة وعلى مدى أكثر من سبعة عقود وكان من أبرزها على الإطلاق صناعة (إسرائيل) وزرعها في قلب العالم العربي، وما نتج عن ذلك من شعور عميق بالهزيمة وفقدان الثقة بالذات والشعور بالدونية.
مسلسل "أم هارون" وعلى الرغم من علاته الكثيرة ساهم في كشف هشاشة "أنماط التفكير لدى بعض العرب" بعد أن أدخل هذا المسلسل الأمة في دوامة جدل "مُبكٍ مُضحك" بشأن طبيعة العلاقة بين "اليهود العرب" والصهيونية العالمية، والعرب والقضية الفلسطينية، وهو الجدل الذي كُسرت فيه الثوابت وارتُكبت خلاله المحرمات وتسيده "الجهلة وأشباه المثقفين" وخلص بالنتيجة إلى إعادة إنتاج "الخديعة الكبرى" وإلصاق الصهيونية بالدين اليهودي وعدّ اليهودية حالة مناقضة للعروبة ومعادية لها، وهو الأمر الذي تريده (إسرائيل) وتعمل على تعزيزه، في حين ذهب آخرون في خضم هذا الجدل إلى ما هو أخطر من ذلك وجاهروا بقناعات "عبثية وشاذة" ربما تفاجأ بها عتاة المتطرفين من الصهاينة التي تقود إلى إنتاج عروبة "ممسوخة" ترى أن الصهيونية – الاشكنازية التي تمثلها دولة الاحتلال هي الحليف والصديق الوفي، وأن "الفلسطيني وقضيته" هما عبء تاريخي عليه، وأحد أسباب تخلفه "حضاريا" وعامل من عوامل زعزعة استقرار حياته ومعيشته.
خطورة مسلسل "أم هارون" هي في محاولته تكريس الصورة النمطية التي تريدها الصهيونية، المتمثلة بربط هجرة اليهود العرب وتركهم أوطانهم وممتلكاتهم "بأكذوبة" الاضطهاد الديني والمجتمعي وهي الصورة التي تحمل تزويرا مريعا للتاريخ، وتروج الاضطهاد المفترض لليهود ليكون مسوغا لسلب الحق الفلسطيني وتحويل اليهودية كنقيض للعروبة والإسلام.
يمارس "أصحاب العروبة الممسوخة" عملية "وأد جاهلية" لدفن الحقائق المتعلقة بتاريخ المنطقة وجغرافيتها وطبيعتها الديمغرافية ومن أبرز تلك الحقائق أن اليهود العرب عاشوا قرونا طويلة (منذ فجر التاريخ) في أوطانهم على امتداد الجغرافيا العربية كمواطنين وأشقاء للمسيحيين والمسلمين ونالوا حقوقهم كاملة في تعايش خلاق وإبداعي أعطى لهذا الشرق العربي تميزه الحضاري والإنساني، وأنه لولا الأعمال الإرهابية للوكالة اليهودية ضد اليهود العرب بعد عام 1948 وتهديد حياتهم ومصالحهم، وبخاصة في العراق ومصر لما كانت الأعداد القليلة منهم تركت أوطانها الأصلية وهاجرت.
لكن في الوقت ذاته فإن عرض هذا المسلسل "أم هارون" أو غيره، لا يعفي أحدًا من سؤال الفضائية التي تبث المسلسل والجهة التي أخرجته، فلا يحكم على الشعوب من مسلسلات بكل أنواعها، ولا من خلال تسجيلات هجاء ولا من خلال الأغاني الوطنية، ولا خُطب الجنرالات الرنانة، بل من خلال النتيجة، أو ما يسمى السّطر الأخير، فعلاقة الشعوب العربية بفلسطين ليست مزاجية، ولا تخضع لهذا النظام أو ذاك، سواء كان ملكيًا أو جمهوريًا أو حزبيًا أو طائفيًا، حتى ولو تأثر الرأي العام لفترات بسيطة ومؤقتة، ولكن القاعدة الثابتة هي أن علاقة الشعوب العربية بفلسطين عميقة جدًا.