قائمة الموقع

"ناهد مطير".. الثائر الذي استشهد مرتين

2016-06-23T13:15:59+03:00

رام الله/ غزة - نجلاء السكافي

منحه الله من الجمال حظًا وفيرًا، ومن الحنكة والحكمة واللباقة والفراسة مثلها، سُمي "ناهد" على اسمِ شهيدٍ آخر، وحبى الله الناهدين لقب الشهادة، قضى واحدًا وعشرين عامًا تاركًا بصمة على جبين العالم أجمع، ابن مخيم قلنديا الكائن جنوبي رام الله، ذاك الشاب الوسيم الجميل الذي لم يره أحد من قبل حتى فغر فاهه للجمال الذي يرى، الخلوق المهذب قوي الشخصية الذي لا يتحدث إليه أحد قبل أن يستأذنه، ماهر في مهنة الحلاقة التي تَعلم خطوطها العريضة وتفاصيلها من والده فوزي مطير، وقد حلمت نعمة مطير طوال سنين عمرِ ابنها أن تَزفَه عريسًا بجنبِ عروسه لكنها صبرت حين زفته لمواراته الثرى بالدمع والزهر.

نذره لله

في نيسان عام 1994 فتحت "نعمة مطير" باب منزلها لاستقبال المهنئين باستشهاد الشهيد ناهد مطير "ابن العائلة وصديقها المُقرب"، كانت حينها تحمل في أحشائها جنينا صغيرا في شهره الثاني، ولمّا فرغت أيام العزاء همس فوزي في أذنها قائلًا:

- إن كان ذكرًا فسأسميه ناهد.

- ولكن أخاف أن يستشهد عندما يكبر (وقلبها قد انقبض فجأة)

- وأنا نذرته شهيدًا لوجه الله تعالى من الآن.

تستذكر نعمة اليوم هذا الموقف وهما ينذران ما في بطنها خالصًا لوجه الله تعالى بقلبٍ راضٍ قبل ما يزيد عن واحدٍ وعشرين عامًا وحينما كانت لا تزال لم تعرف هوية الجنين بعد، حتى جاءتها آلام المخاض في التاسع عشر من حزيران للعام 1994م، تعلن عن تشريف مولودها الأول الذي حباه الله جمالًا منفردًا.

تقول: "حمل الطبيب طفلي وأخذ يتجول به في المستشفى وهو يقول انظروا ماذا أنجبت نعمة مطير، أنجبت لنا بدرًا، والكل يبارك لي مولودي مبدين إعجابهم الجمّ بجماله الفائق".

يستأنف فوزي: "قررنا في تلك اللحظة تسميته ناهد تيمنًا بصديقنا الشهيد ناهد من قبل، وكلما كانت تخرج به كنت أطلب منها أن تغطيه وألا تكشف عن وجهه خوفًا من الحسد، ويطلب جميع أفراد الأسرة منها ذلك".

وفي كل مرحلة عمرية كان يمر فيها ناهد كان يزداد أدبًا وأخلاقًا يُذاق حسنها بين أزقة المخيم وساحاته، وفي السنوات الخمس الأخيرة من حياته بعد أن قرر امتهان الحلاقة، أصبح ناهد الأقرب لوالده، فيقول: "كان ابنا، صديقا، وأخا، كان باختصار مستقبل حياتي، كنت أريد تسليمه الصالون؛ ليصبح هو المسؤول عنه، فعمله كمهني كان رائعا وذلك ما كان يجعلني مطمئنا على العمل كثيرا".

محاصرًا في المخيم

في التاسع والعشرين من شباط 2016 ليلًا هبت مواجهات عسكرية بين قوات جيش الاحتلال والشبان المقاومين في مخيم قلنديا عقب مطاردة سيارة عسكرية "إسرائيلية"، ادعت سلطات الاحتلال أنها ضلت طريقها، حيث أحرق الشبان المركبة وضلّ منها الجنديان واندلعت على إثرها مواجهات عنيفة بعد اقتحام قرابة ألف جندي المخيم.

في تلك الأثناء حوصر ناهد من قبل جنود الاحتلال لأكثر من ثلاث ساعات في أحد أزقة المخيم، تقول والدته: "في آخر نصف ساعة عرفت أن ابني محاصر، بدأت بالاتصال عليه إلا أنه لم يُجب فقد أغلق هاتفه؛ حتى اشتعلت النيران في قلبي عليه".

كانت الساعة تقترب من الواحدة بعد منتصف الليل عندما رأته قادمًا نحو المنزل وهو ينزف من يديه ويعرج على إحدى قدميه بعدما وقع من علو أثناء محاولات انسحابه من المخيم، تقول والدته: "عندما رأته اطمأنت أنه بخير، أسعفته ثم قبلت اصبعه المصاب وتوسلت إليه حتى يبقى في المنزل؛ لكنه تذرع بضرورة الذهاب ليحضر شقيقه من الخارج".

تتابع: "لم تمر سوى عشر دقائق على خروجه حتى بدأ وقوع الإصابات ولم تعد سيارات الاسعاف تستطيع الوصول للمنطقة لكن الاصابات كانت تصل لمنزلنا وكنا نحاول مساعدتها"، لم يمر وقت طويل حين سمعت أصوات هتافات لمجموعة من الشبان قادمة تجاه منزلها بينما يتهامسون بعضهم يقول شهيد وآخر يقول مصاب.

تقول: "لم أشاهد وجهه لكني تأكدت أنه أحد أبنائي"، فركضت مسرعة لتخرج من المنزل لكن أحدهم أغلق الباب ومنعها من الخروج، وفيما انشغل الشبان بوضع المصاب داخل المركبة وجدت ابنها محمود ينهار باكيًا حينها عرفت أن المصاب هو ناهد، تقول: "لم أستطع رؤيته فالشبان غطوا وجهه بينما كان رأسه ينزف تاركًا بركة دماء أمام المنزل".

خمسة عشر يوما

وصفت إصابة ناهد بالخطيرة جدا، حيث تضررت أجزاء كبيرة من دماغه ومرت 78 ساعة ولم يستيقظ ناهد بعد، الأمر الذي أكد دخوله في غيبوبة، تقول والدته: "في 15 آذار ذهبت ووالد ناهد إلى المستشفى كالعادة، ليخبرنا الأطباء أنه ما عاد يستجيب لأي محاولات لإنعاشه، وأبلغونا أنها ساعاته الأخيرة، بعد مرور ساعة ونصف كانت الأحلك في حياتي استشهد ناهد".

تتابع: "خلال الـ 15 يوما كان ناهد يزداد جمالاً يوما بعد يوما، كنت أرفض أن أتركه، كنت أريد أن أعيش معه لآخر نفس له في الحياة". تقول نعمة التي بقيت واقفة عند رأس ابنها طوال الوقت تقبل جبينه وتمسح وجهه، تردف محدثةً اياه لحظة الشهادة: "كنت جميلا يا ناهد، ولكن كجمالك وأنت نائم لم أشاهد، لم أكن أجلس معك كثيرا لانشغالك بالعمل، كنت أحب أن تبقى بجانبي طوال الوقت، أحبك ناهد".

جاء رمضان مُسرعًا لينكأ جرحًا أخضر في قلبيّ والديه، يقول والده: "قبل رمضان لم أكن احتمل دخول الصالون لأنه ليس لي بل لناهد ولأن كل ذكرياتي مع ناهد فيه فكنت أتجنب المكوث فيه واليوم في رمضان لا أحتمل البقاء في المنزل فكل لحظة من لحظات رمضان تدفعني بقوة لاستحضار ناهد فيها".

أما والدته: "لا طعم، لا نكهة ولا لون لرمضان بدونه، ناهد هو ضحكة البيت، كان يخلق لرمضان جوًا مبهجًا لا مثيل له، بمجرد دخوله البيت أترك كل أشغالي وأجلس للاهتمام به، وبمجرد حضوره للبيت يصخب المكان بأحاديثه وطلباته ومخططاته، باختصار لمة الافطار بدون ناهد بكائية بالدرجة الأولى، قاتمة ومعتمة وبلا مذاق".

اخبار ذات صلة