قائمة الموقع

والدة الشهيد مازن فقها في حديثٍ لـ"فلسطين "يُبرّد القلب"

2017-03-30T08:04:56+03:00
صورة أرشيفية

أربع رصاصاتٍ انطلقت من مسدسٍ كاتم للصوت، لكن أزيزها دوّى في فلسطين وخارجها، ولم تصب جسد الأسير المحرر "مازن فقها" فقط، وإنما كانت طعنة أصابت الفلسطينيين في مقتل، وأوجعت قلوبهم تمامًا كما لو كان الراحل عزيزًا يعرفونه منذ زمن، وفي اليوم التالي خرجت الآلاف المؤلفة لتشيّع جثمانه، كيف لا يكون هذا الحب وهو ومضمون دعاء مضت الأم سنوات في ترديده؟ وهل يُعقل ألّا يرتفع شأن من كان "يعلو ولا ينخفض" في مهده؟ أليست علامات التميز في الطفولة تشير إلى تألق في الكبر؟

"فلسطين" حاورت السيدة غصون فقها، والدة الشهيد، لتستمتع لبعض اللفتات في حياة مازن الإنسان، بعيدًا عن عمله المقاوم الذي لم يكن يتحدث عنه بشيء أبدًا، ولولا كثرة المعزين المتوافدين لمواساة أمه، لكان حديثها أطول، فالكلام عن مازن "يبرّد القلب" على حد قولها.

من الظهيرة إلى الغروب

بولادة مازن، كان العيد عيدين، فالرابع والعشرون من أغسطس من عام 1979 الذي وُلد فيه، كان يوافق ثاني أيام عيد الفطر، وكأن حياته كانت يوم جمعة مبارك، فهو خرج إلى النور في ظهيرة يوم جمعة، وفي الجمعة أيضًا، ولكن وقت الغروب، كان الرحيل، هكذا ترى أمّه الصابرة.

منذ كان طفلًا، كان التميز واضحًا في شخصيته، يلعب مع أقرانه ويشاركهم صفات مرحلتهم العمرية، لكنه في الوقت ذاته مختلف عنهم، وتقول والدته عن طفولته: "إذا فعل شيئا يسعى لأن يجعل عمله مميزا عن باقي الأطفال، كانت لعبته المفضلة (يهود وعرب) يلعبها مع أبناء الحي، إضافة إلى ألعاب التركيب، ولطالما تحدث في صغره عن رغبته بأن يكون مهندسا متخصصا في الكهرباء، وكان للرياضة مكان مهم في حياته، وأَحبَّ منها صعود الجبال والصخور.

وتضيف أنه تميّز دومًا بحبّه للناس وخاصة لأسرته، وبادله الجميع هذا الحب مع مستوى عالٍ من التقدير، حتى أنه لم يكن يتسبب بأي خلافات مع أقرانه رغم سنّه الصغيرة، وكان إذا سمع ما لم يرُق له أو وجه أحدهم شتيمة له، كان يغلق أذنيه ويسرع إلى أمه كما كانت توصيه أن يفعل.

أمّا علاقته بالمسجد فوطيدة منذ أن كان في الصف الرابع الابتدائي، ففي ذلك الوقت التزم بالصلاة تمامًا وبدأ بحفظ القرآن، ولأنه ملتزم بالحفظ، كان يحصل على مكافأة شهرية من المسجد، لكنه كان يخجل من استلامها، لأن "من يقرأ القرآن، لا يأخذ ثمن قراءته"، كما كان يقول لأمّه.

نورٌ ينبعث!

تلك المرحلة العمرية لم تخلُ من علامات قرأها أهل مازن على أنها تشير إلى عِظم شأنه عندما يكبر، منها أنه في سنِيِّه الأولى كان أثناء نومه يرتفع بجسده فوق الوسادة، بخلاف أغلب الأطفال الذين ينزلون برؤوسهم عنها، فكان جدّه يقول بينما يحرّك الوسادة تحت حفيده: "أتوقع أن يكون له شأن كبير، هذا الولد يعلو ولا ينخفض".

وبعد التزامه بالصلاة، سأل مازن والدته عن النور الذي يراه في سجادة الصلاة: "يا ماما بشوف نور بيطلع من سجادة الصلاة، من مكان رجليا عليها!"، كان من الطبيعي أن تفسّر الأم كلام ابنها بأنه تهيّؤ، ولكن تكرار حديثه عن النور الذي يراه في موضع قدميه على سجادة الصلاة، جعلها تأخذ الأمر على محمل الجد.

تعاملت "أم مازن" مع ما أخبرها به ابنها بميزان "لا تقصص رؤياك على أحد"، فقالت له: "هذا نور من الله، سينير دربك، وسيكون لك شأنٌ عظيم عندما تكبر، فاجعل خبر النور سرًّا، احتفظ به لنفسك، ولا تخبر به أيًا من إخوتك أو أصدقائك".

توضح: "عمل مازن بوصيتي، وحفظ السر، ولكني بعد استشهاده، ندمت على أنني طلبت منه ذلك، وتمنيت لو جعلته يخبر أقرانه لعل حديثه يفتح لهم باب هداية ورشاد".

طبّقها حرفيًا

كبر الطفل، وما يزال يلعب لعبته المفضلة، ولكن بطريقة أخرى يتكتم عليها، فأطفال الحارة لم يعودوا أبطالًا في لعبته، وإنما طبّق اسمها حرفيًا "يهود وعرب"، هذه المرة انضم إلى صفوف المقاومين ليقارع العدو حقيقةً لا خيالًا.

وبحسب الأم الفخورة بفلذة كبدها: "عندما وصل المرحلة الثانوية بدا أنه تغيّر، ولكنه لم يكن يتحدث عن شيء مطلقًا، وكنت أسمع الأناشيد الإسلامية تصدح في غرفته، وكان حينها قد التحق بالمقاومة دون أن يخبرنا، فقد كان كتومًا للغاية وصامتًا تمامًا في كل ما يتعلق بعمله في المقاومة".

ماذا عندما عرفت الأسرة الحقيقة التي يخفيها "مازن"؟، تجيب والدته: "لا يمكن أن أطلب من ابني أن يحيد عن هذا الطريق، فقد اختار طريقا صحيحا لا تراجع عن المضي فيه، خاصة أنه قد كبر وأصبح قادرا على اتخاذ القرارات ولا يمكن لي أن أفرض عليه قراراتي أنا".

وتبيّن: "هذا اليقين لا يحول دون وصول الخوف إلينا، خاصة أن بيتنا كان على أطراف طوباس، ومجموعات من جنود الاحتلال تمر قربنا بين الحين والآخر"، لافتة إلى أنها اقترحت عليه أن يؤجل عمله هذا إلى ما بعد الحصول على الشهادة الجامعية، فكان ردّه: "الجامعة ملحوق عليها".

في الجامعة بدأت الملاحقات، وبعدها لم يطل الوقت حتى جاء موعد الاعتقال، ففي عامه الجامعي الأخير اعتقله جهاز الأمن الوقائي، وكانت الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة الفلسطينية تستدعيه للتحقيق بين الحين والآخر، ثم كانت عملية الانتقام للشهيد صلاح شحادة، وعلى إثرها اعتقله الاحتلال.

في واحدةٍ من ملاحقات السلطة لمازن ورفاقه، طالت مدّة الاحتجاز، فما كان من سكّان القرية إلا أن تكاتفوا ليهدوه الحرية، وعن ذلك تقول والدته: "اعتقلته السلطة بينما كنت في المستشفى على إثر عملية جراحية خضعت لها، كنت ألحظ أن ابنتي تخفي حزنًا كبيرًا، وتبكي بعيدًا عني، فظننت أن هذا من علامات قلقها عليّ، ولكن تبيّن لي لاحقًا أنها تخفي عني اعتقال أخيها"، مضيفة: "لأن مازن محبوب جدًا، ويكنّ له الناس الاحترام والتقدير، وهو يبادلهم الأمر ذاته، لم يقبلوا الوقوف مكتوفي الأيدي على اعتقاله، فاجتمعوا في مكان اعتقاله وأخرجوه".

أن أراه ولا أراه!

في نوفمبر 2001 نشرت صحفٌ عبرية اسم مازن كأحد المطلوبين، ومنذ تلك اللحظة بدأت مرحلة المطاردة، والتي استمرت حتى اعتقاله في أغسطس من عام 2002، وكان فيها من الألم ما لا يستوعبه سوى "مُجرِّب".

عن شهور المطاردة العشرة تتحدث فقها: "كانت شهورًا صعبة للغاية، فهل يُعقل أن يتحرك ابني أمام بيتي ولا أتمكن من استراق النظر إليه! هذا ما كان يحدث بالضبط، يمرّ في شارعنا وسط الظلام، فأرفض أن أوجه أنظاري إليه، وكذلك باقي أفراد العائلة، وذلك حتى لا يلحظ وجوده المراقبون المنتشرون في المكان".

وتقول أيضًا: "الأم مستعدة للموت مقابل ألّا تؤذي ابنها، وأنا أعرف أنني إذا نظرت له أو أصدرت صوتًا ابتهاجًا برؤيته فسيرصد المراقبون حركته، وكذلك إذا حاولت أن ألتقي به في أي مكان، لذا كنت أخرج من بيتي وأتحرك في المنطقة ليراني، أو أذهب إلى مكان أعرف أنه سيراني فيه، وكذلك الحال بالنسبة لإخوته، فبهذه الطريقة كان يرانا ويطمئن علينا ويطفئ شيئًا من نار اشتياقه لنا".

هذا ناهيك عن مشاعر الخوف التي لا يمكن وصفها ولا الحديث عنها، على حد قولها.

في الأيام الأولى من أغسطس عام 2002، توالت الأحداث وانتهت فترة المطاردة، إذ شارك "مازن" في عملية للرد على اغتيال القائد العام لكتائب القسام الشيخ صلاح شحادة، وسرعان ما اعتقلته قوات الاحتلال، وبعد أيام قليلة هدمت منزل العائلة.

ومن هنا، أخذت معاناة الأهل شكلًا آخر يختلف عمّا كان عليه الحال في أيام المطاردة، ووفقًا لـ"أم مازن": "غيابه كان صعبًا للغاية، فهو الكبير من بين الأبناء الذكور، وإخوته شديدو التعلق به، أمّا جدّتاه فكان حالهما تنفطر له القلوب، فجدّته لأبيه توفيت في 2006 وهي تنتظر عودته، إذ لا تعلم عنه سوى أنه في تحقيق بسيط ولا علاقة له بالعمل المقاوم، أمّا والدتي فتوفيت قبل الإفراج عنه بشهر، وكانت أمنيتها أن تراه قبل الموت".

كانت العائلة ترى ابنها الأسير في قاعة المحكمة فقط، وتتواصل معه بالإشارات، فالتواصل بالكلمات غير ممكن، وبعد انتهاء جلسة المحكمة ينقل لها المحامي رسائل مازن التي تهدف لطمأنة الأهل.

وبعد عامين من الاعتقال، سمح الاحتلال للعائلة بالزيارة الأولى، وشارك فيها الأبوان والأخ الأصغر، وكانت فرصة للاطمئنان على صحة "مازن"، فالمعلومات التي وصلت إلى مسامع أهله تفيد بأنه مشلول تماما، وأن ظهره مكسور، ويداه ورجلاه لا تتحركان، وأنه فقد كل أسنانه، لذا كان أول ما طلبته منه أمّه أن يثبت لها سلامة جسده، فتحرك خلف الزجاج الفاصل بينهما ليؤكد لها أنه بخير، ولكنها فهمت منه أنه كان بتلك الحال فعلًا ثم تحسّن.

غزة.. الحمد لله

مرّت سنوات الاعتقال بكل ما فيها من أسى، ثم جاء الخبر السعيد، اسم مازن ضمن قائمة الأسرى المُفرج عنهم، وما زاد سعادة والدته واستدعى منها أن تحمد الله مرّة أخرى معرفتها بأن ابنها سيكون في غزة، وبذلك فهو سيعيش بعيدا عن ملاحقات الاحتلال في الضفة، ولن يكون في غربة عن الوطن.

وبعد 20 يوما من الإفراج عنه، جاءت إلى غزة مع بعض أفراد عائلتها، وخطيبة ابنها "ناهد عصيدة"، وكانت كلما سألت عن أحواله يرد بما معناه: "كنت في عالم آخر، وأحياني الله من جديد، فها أنا أتحرك، أمّا ما مضى فأحتسب أجره عند الله"، ولم يكن يمل من السؤال عن بلدته والحيّ الذي نشأ فيه، وعن كل معارفه هناك، فهو يحب الناس كما يحبّونه.

حب الناس لمازن، في حياته، وبعد مماته، له تفسير عند والدته، إذ كانت تدعو الله له دومًا: "ربنا يحبب فيك القريب والغريب، والعدو والصديق"، وما تزال تدعو له بذات الطلب حتى بعد رحيله.

ولكن من قال إن الخطر المُحدق بمازن قد زال؟ بالطبع لم يزُل، لأن المقاوم ما يزال على العهد، ماضٍ في طريق الجهاد، ولذا فإنه منذ الإفراج عنه توالت اقتحامات جنود الاحتلال لبيت عائلته في الضفة، وفي كل مرّة يطلبون منه أهله أن يجبروه على أن "يبقى محترمًا، ويهتم ببيته، وإلا ستصله يدنا في غزة".

ذات مرّة جهّز الجنود البيت للهدم، وأحاطوه بالمتفجرات، وقالوا لوالد الشهيد: "ستفقدون البيت، وستعيشون تحت الشمس"، وقبل عام اقتحموا البيت وطلبوا من والده الاتصال به عبر هاتفه، تحدث معه أحدهم بالعبرية، فاحتدم الحديث وارتفع صوتهما، لكن الحديث كان باللغة العبرية فلم يفهمه الأهل، ولاحقًا عرفوا أن مازن قال لمحدّثه: "لو راجل، تعال لي على غزة"، وكان كلّما أخبره أهله بتهديد جديد، يقول: "الرب واحد، والعمر واحد".

ليس كمثلها علاقة

علاقة الشهيد بإخوته مميزة إلى الحد الذي يجعل أمّه تجزم بأن لا علاقة أخوية قد تماثل حال أبنائها، وفي ثنايا حديثها تستذكر بعض المواقف لتدلل على حسن تعامله معهم، ومن ذلك أن أخاه الذي يصغره كُسرت يده ذات يوم أثناء لعبهما معا، شعر مازن بغصّة وحمّل نفسه مسؤولية ما تعرض له شقيقه، وبعد سنوات، وتحديدا عندما كان أخوه في السابعة عشر، توفاه الله، فانفجر مازن بالبكاء لأنه كان السبب في إيذاء أخيه يوما ما، رغم تأكيدات الأم أن الإصابة لا علاقة لها بمازن.

وعندما كان في الثانوية العامة، كان يحمل كتابه، ويتوجه إلى مكان الأغنام التي تملكها العائلة، ليرعاها ويقوم على شؤونها، بينما هو يدرس، وقد كان يفعل ذلك لكي لا يحمّل العبء لإخوانه الآخرين.

أمّا بلدته، فكانت في قلبه دوما، وكان حريصا على الاطلاع على صورها دوما، لكنه كان يطلب أن تكون الصور خالية من مشاهد الامتداد العمراني الذي طال بعض المناطق التي كانت تتمتع بطبيعة خلابة قبل اعتقالها، مبررا ذلك بأن: "أريد أن أرى طوباس التي هي مخيلتي، فهي أجمل مكان في الدنيا بالنسبة لي".

عدسات كاميرات أفراد العائلة كانت يقظة دومًا لتلتقط لمازن ما يروق له من صور تخصّ طوباس، سواء لمناطق طبيعية، أو فعاليات أو مناسبات، وفي يوم الخميس الأخير قبل استشهاده، أرسل له أخوه صورًا، فجاء الرد: "مصورها بالجنة يا أحمد؟"، تعبيرًا منه عن جمال ما يراه.

وفي يوم الجمعة التالي، طلب مزيدًا من الصور، فخرجت العائلة في نزهة، وعادت الأم بمجموعة من الصور لترسلها له، لكن الوقت لم يسعفها لتنفيذ طلب ابنها، وبعد العودة كان خاله في ضيافة أهله، وبينما العائلتان تتحدثان عن النزهة، وصلهم أن خبرًا مهما في التلفاز، وهنا كانت الصدمة، شاشات الفضائيات مغطاة بأشرطة حمراء تحمل خبرًا عاجلًا: "استشهاد الأسير مازن فقها".

ورغم أن احتمال استشهاد مازن لم يغادر أذهان أسرته يومًا، إلا أن التوقيت وطريقة الاغتيال لم يكونا ضمن أفكارهما أبدًا، ولكن الصبر والرضا كانا حاضرين دومًا.

اخبار ذات صلة