من أقبح الظواهر التي أفرزتها تطورات الأعوام الأخيرة، وما حملته من غريب الاصطفافات والمواقف تلك المعروفة بظاهرة الذباب الإلكتروني، وهم تلك المجاميع من الحسابات الإلكترونية الموجهة للنيل من ثوابت الأمة والتشكيك في مقدساتها والتطاول على حقوقها، إضافة إلى التهجم على ثوراتها قديمها وحديثها، وفي قلبها وعلى رأسها القضية الفلسطينية والمقاومة للمشروع الصهيوني.
ثمة جدليات وقضايا كثيرة، الأصل أننا فرغنا منها منذ زمن طويل، وصار بيانها من البدهيات التي لا تحتاج مزيد إثبات، أو ضلوع في المحاججة بشأنها، كإثبات خطر المشروع الصهيوني على المنطقة العربية والإسلامية كلها، وقبل ذلك تأكيد حقيقة هذا المشروع وجوهره وكونه قام على اغتصاب الأرض وتهجير وتقتيل أهلها، وإحلال يهود من جنسيات شتى مكانه بعد استجلابهم من بلادهم، وكإثبات حق الفلسطينيين في مقاومة أعدائهم، ووجوب دعم الأمة لهم في مقاومتهم كونهم يدفعون بها عدوهم جميعًا وليس عدو الفلسطينيين وحدهم.
ولا شك أن المقام لا يتسع لتعداد ما توافقت عليه أكثرية الأمة منذ احتلال فلسطين، وكان بوابة انتمائها لقضية فلسطين على الدوام، ثم لكل قضايا الأمة العادلة في ثوراتها على طغاتها وناهبي ثوراتها وسالبي كرامتها. كل هذا أوجد لدى الأمة وعيًا جمعيًا أبقى بوصلة أصالتها منضبطة، وأدام فلسطين في قلب اهتمامها، بل وربط بين مقاومة الفلسطيني لعدوه الصهيوني وبين نضال أخيه العربي ضد المستبدين، فالحاجة للحرية واحدة هنا وهناك، والخلاص من نظام الاستبداد والتفريط العربي يخدم قضية فلسطين، مثلما أن خلاص الفلسطيني من الاحتلال الصهيوني يساهم في مشروع النهوض العربي.
وفي الوقت الذي كان ينبغي أن يتطور فيه الوعي بضرورة مواجهة المشروع الصهيوني إلى فعل، رأينا كيف تحاول حفنة من المنسلخين عن الوعي والأخلاق والشرف والانتماء للأمة إعادة الأمور إلى المربع الأول، وأقول حفنة لأن قوتهم ليست في كثرتهم، بل فيما امتلكوه من وسائل السيطرة كالسلطة وقوة البطش وسلاح المال، ومعهم أتباعهم من المرتزقة، الذين لا يجدون ضيرًا في تلك الهرولة المبتذلة للتطبيع من الكيان الصهيوني وتلميع صورته، ما دام هناك من يصبّ المال في جيوبهم نظير فعلهم القبيح هذا.
ومما زاد الطينة بلة تحوّل طنين الذباب في فضاءات مواقع التواصل إلى أعمال درامية متهافتة وتافهة المضمون وخاوية فنيا، لكنها تستمد قيمتها ويكثر الجدل حولها من شهرة المنصات التي تعرض عليها وكثافة المتابعة لها، ورغم أن غالبية متابعيها ينكرون مضامينها إلا أن هذا الاشتهار يبهج أذناب الطغاة القائمين عليها، فيظنون أن سهمهم قد أصاب هدفه.
ولعلّ هذا أسوأ ما دفعنا إليه طنين الذباب الإلكتروني؛ أي اضطرارنا للدفاع عن أساسيات وثوابت يفترض أنها قد شكلت وعي الأمة منذ عقود، في وقت كان يُنتظر أن يتطور هذا الوعي إلى فعل ونهضة. واضطرارنا لإعادة التأكيد على أن الشعوب العربية وخصوصًا في دول الخليج ومصر لا تشبه حكامها المتورطين في هذا المشروع المدنّس، وفي محاولات تزييف وعي الأمة وتهشيم ارتباطها بمقدساتها، بل واضطرارنا لاستحضار نماذج من التاريخ القديم والحديث تدلل على ترابط الأمة في إحساسها بقضاياها واستعدادها للدفاع عنها، صحيح أن هذا كلّه يبدو مطلوبًا لمناوأة طوفان الزيف، ولأن هناك من الناس من تغرّه الصورة وتخدعه الفكرة إذا قُدمت له في قوالب خادعة، لكنّ الأمر يستنزف طاقة كبيرة، ويحملنا على تعظيم إنجازات صغيرة، وعلى إعادة تعريف الواجب الجمعي وبيانه، في مواجهة من يحرّضون العربي على الانسلاخ عن هويته، والتنكّر لقضايا أمته، والانحباس في حدود همومه القُطرية الضيقة، بعد أن كان الإحساس بوحدة الهم والمصير والغايات قد تعاظم عشية احتلال فلسطين، ثم انتفاضاتها، ثم خلال موجة الربيع العربي الأولى.
لكنّ هذا حال الردّة التي أعقبت تلك الموجة، وهذا ما صنعه مشروع الثورة المضادة غير المبارك، فقد كانت ردة عن كل فضيلة، وهي تحاول اليوم أن تنال من الوعي والإحساس والمروءة، بعد إجهاضها أحلام الأمة، وعدوانها على عناوين ثورتها ونهوضها، وعسى أن تكون هذه آخر بضاعتها ومؤشر إفلاسها القريب.
نجد أنفسنا اليوم مدفوعين للعودة للدفاع عن أساسيات متعلقة بقضية فلسطين وقضايا الأمة العادلة، لكننا لا ننسى في خضم ذلك أن الموقف غير الأخلاقي من فلسطين (القضية والحق) إنما يجلي جوهر تلك الفئة الحاملة لواء شيطنة الطهر، ويدلل على دناءتها، فلا يضير فلسطين ولا يضير شرفاء الأمة أن يكون خصومهم هم أنفسهم عرابو الثورة المضادة والمتآمرون على الحرية في كل مكان، بل لعل نذالة موقفهم من فلسطين تبلغ بهم غاية الانحطاط الذي عرفه المشهد العربي منذ عقود.
جيد أن تكون نوايا هؤلاء مكشوفة كل هذا الانكشاف، وأن يكون خطاب خيانتهم واضحًا لا مواربًا، ليس فقط لأن الأشياء تتميّز بضدها، ولأن نذالة خصمك تطمئنك إلى سلامة خيارك، بل كذلك لأن ذاكرة التاريخ ينبغي أن تسجل محطة الخيانة والانتكاس بسجاياها وأوصافها وتعريفاتها الحقيقية، فلا يُختلف على الموقف من شخوصها فيما بعد، ولا يكون هناك مجال لأن يتأول أحد لفعلهم أو يلبسه لبوس الشرف والحنكة، كما حدث مع مواقف عديدة وشخوص كثيرين عبر التاريخ.