فلسطين أون لاين

​"أمينة سرّ" مازن فقها تبوح لـ"فلسطين" بأجمل الذكريات

...
ناهد عصيدة زوجة الشهيد مازن فقهاء - أرشيف
تقرير - آلاء المقيد

كانت نظراته تُلاحقها, أينما ولّت وجهها, ومشاعر الوّد تُكلل مملكتهم الصغيرة, لم يُبد غريباً عليه ذلك, فهو الذي اعتاد أن يُسقيها من الحُب ما لذّ وطاب ما دام له في هذه الحياة من أنفاس.

قُبيل موعده الأخير بساعات, عانقها بشدة, تلعثمت الحروف في فِمه, لملمَ مشاعره أخيراً :" ناهد, أنتِ حبيبتي وزوجتي وأمينة سري, لا شعور يصِف ما أحمله لك بداخلي", تزين محياها بابتسامة عريضة وعادت لتقول له مجدداً :" وأنت يا مازن الزوج المثالي ودعوة أمي الجميلة لي " .

مرّ اليوم التالي بحُب أكبر مما سبق , وتفاصيل أجمل , دون أن يدور في خُلد أحدهما ما يُثير الاستغراب أو الدهشة, أثناء عودتهم إلى البيت من رحلة عائلية, غالب النعاس محمداً فنام كالملاك في حضن أبيه, الأخير أخذ يسترق بخِفة قُبلات من وجنتيّ طفله, ثم وضعه في فراشه, وذهب لخمس دقائق فقط " يصف سيارته في كراج المنزل" ويعود.

مرّت الخمس دقائق تجر خمسا أخرى , وبينما تنتظر ناهد عودة زوجها, هاتفت أهلها في نابلس, لتُحدثهم عن تفاصيل يومهم الجميل, لم تستطع إكمال المكالمة, إذ فزعَ محمد من نومه باكياً: "بابا بابا, حاولت أمه تهدئته لكن لا فائدة, صراخه يزداد, حاولت الاتصال بوالده دون جدوى, دق جرس البيت.

_ من !

_ خالك عمر .

_ غريب , ما الأمر ؟

_ لا شيء .

انقبض صدرها , حبست أنفاسها واغرورقت عيناها بالدموع علّ بعد اللا شيء, شيء يُطمئنها ويُهدئ من روع محمد , لكن !

_ تم اغتيال مازن من مجهولين .

خارت قواها, وكانت تعابير وجهها في تلك اللحظة تائهة تبحث عن قشة الغريق لتنجو, لكن لا فائدة صوت الاسعافات يعلو وعبارات تتردد من الجيران :"لا نامت أعين الجبناء, الله يرحمك يا مازن", كل ذلك أوقف الحياة وقطع الأمل, بكت كأنها لم تبك من قبل, ثم تذكرت أن حبيبها مازن لا يُحب أن يرى دموعها, فكفكفت دموعها لتذوب في وجعها بصمت.

وما أن أُذيع خبر اغتيال المحرر المبعد إلى غزة مازن فقها (37 عاماً) على يد مجهولين مساء الجمعة الماضية, حتى انتفضت غزّة عن بكرة أبيها, وضجّت مواقع التواصل الاجتماعي بثورة الكلمات الغاضبة, عزّ على الكثيرين فَقد الشهيد كأنه أحد المقربين لهم, سبحان الله!؛ لعلها من علامات القبول , فإن الله إذا أحبّ عبداً جعل له القبول في الأرض .

اللقاء الأول

على أعتاب صفقة وفاء الأحرار عام 2011م كانت القنوات والإذاعات المحلية تعقد لقاءات مباشرة لتجمع المحررين المُبعدين إلى غزة بأهليهم في الضفة الغربية, وفي يومٍ التقت عائلة المحرر المبعد عمر عصيدة في بثٍ مباشر معه ، يُجاوره في اللقاء رفيقه مازن، فرأى ناهد، وبعد انتهاء اللقاء، سأله عنها , لخطبتها.

عُرضت الفكرة على ناهد عصيدة (26 عاماً) , في تلك الليلة أصابها الذهول ! أسير للتو خرج من السجن لا تعرف نفسيته ولا ماذا فعل به السجن ومبعد إلى غزة المحاصرة ! واغتراب عن الأهل ونابلس ؟ وهي التي لم تُفكر اطلاقاً بالارتباط بأسير, أيعقل هذا؟ . ظلّت حتى ساعات متأخرة من الليل تُفكر لماذا لم أقل " لا " وينتهي الأمر كالذي سبقه! ما الذي يُكبح جماح الرفض ؟ ولا يُخِرج نعم , يا الله ما هذه الحيرة ؟, فصلّت صلاة استخارة ونامت.

وعندما استيقظت أخذت طريقها إلى دكتورها الجامعي في نابلس تستشيره عن البديل الجامعي لو قررت الانتقال إلى غزة وأشار عليها, فعادت إلى أهلها بـ "نعم للزواج من الأسير المحرر مازن فقهاء", وكانت أجمل نعم تقولها على الاطلاق, أما أهلها فظّل الخوف يُساورهم من عدم اللقاء بابنتهم مرة أخرى, وهي ما فتئت تُطمئنهم أنها خمس سنوات على أبعد تقدير وستعود مع مازن إلى نابلس وطوباس , لم تكن تدرِ سرّ تكرارها لهذه الجملة إلا فيما بعد, وتمنّت لو أنها لم تقلها.

بعد أيام من موافقة ناهد تلاقت العائلتان, لأجل قربٍ حلال يجمعهما بسعيد الحظ مازن, ووجدت كل عائلة عند الأخرى ما يُفاخر بالنسب منها , تواصلت الاجراءات القانونية والتقليدية لإتمام السفر إلى غزة حيث العريس ينتظرهم هو الآخر على أحرٍ من الجمر .

وكان اندفاع تلك الفتاة العشرينية التي تنتظر رؤية بطل روايتهما مازن حافزاً قوياً لتطوي مسافات البعد بينهما وتُطوّع ما تيسر من لحظات في هذه الحياة لأجل البقاء معه , فسافرت مع والديها ووالديّ مازن بعد ثلاثة أيامِ فقط من انتهائها من اختباراتها الجامعية .

لكن ثلاثة أيامٍ أخرى أُضيفت على عداد الانتظار, فلسوء حظ الفلسطيني, عدوه فقط من يتحكم بعبوره من وإلى وطنه ! فهل من المنطق أن يفوّت عدوُ كــــــ (اسرائيل) فرصة _أتته بقدميها _ لتعذيب مُدوخيه " الفلسطينيين" ؟ بالتأكيد لا, لذا كان لابد أن تدفع ناهد ومن حَضر معها إلى غزة ضريبة اللقاء ببطلٍ كمازن, فخضعت للتحقيق وسين وجيم المحتل, ثم لتساؤلات الأردنيين ومن ثم المصريين, "والنطرة" ليوم كامل في ميناء نويبع بلا طعام ولا شراب, وكُل ذلك لم يكن يعنيها بشيء, فقط ما يهمها ويحتل تفكيرها هو لقاء مازن .. ذاك الشاب اليافع الذي طُورد منذ سن 18 عاماً .

-أهلا بك, نورتي غزة , ثم أدار عيونه عنها.

أثار هذا الجمود في كلمات مازن الأولى, استغراب ناهد, تصرف كغريب معها لماذا؟ لأنه لم يعقد قرانه بعد عليها , في اليوم التالي وهو العاشر من يناير / 2012 وقعا أخيراً على ورقةٍ شرعية تُوثق حبهما , ووضع الخاتم بإصبعها :" أنتِ الآن خطيبتي وأنا حبيبك الذي سيُرضيك بما يستطيع إلى ذلك سبيلا", مقدراً ما كان يُسميه تضحية ناهد بترك مدينتها والغربة عن أهلها لأجله, سيما وأن ناهد هي الوحيدة من بين زوجات المحررين المبعدين التي مُنع أهلها من زيارتها, فكان يُطوّع كل مسافات البعد وابتلاءهم بالغربة عن أهليهم بالكرم الإلهي لهما .

مازن كان أكثر ما يُحدث به زوجته ويُوطنها عليه هو الرضا بما كتبه الله لهما من اغتراب وابتلاءات, عامهما الأول بغزة كان صعباً على ناهد سواءً من ناحية الظروف الصعبة التي يمر بها أهل القطاع, أو الحنين إلى الأهل والوطن, لكنها مع مازن تجاوزت الكثير من العقبات, فالعتمة التي كانت تخاف منها ناهد, والتي تُبكيها أحياناً, لم تعد تهابها مع مازن, ومحاولته الدائمة لأجل ارضائها وسعادتها جعلتها تخجل من دموعها على فراق أهلها أمامه, فتحرص ألا تبكي لأن حبيبها لا يُحب أن يرى عيون جميلته حزينة.

ولك أن تتخيل _ عزيزي القارئ_ مشهد أن يعضّ المرء على شفتيه محلقاً بعيونه إلى السماء كي لا تخونه الدموع فتسقط سهواً على وجنتيه وهو يُستذكر زمناً تحوّل بأربع رصاصات كاتمة للصوت إلى مجرد ذكريات, المهم لا تبكي ! فهذه وصيته الدائمة لها.

وخلال الخمسة أعوامٍ التي قضتها ناهد كزوجة وأم وصديقة لمازن نجح في أن يُقدم لها :" نموذجاً مثالياً عن المسلم الخلوق, فهو لا يُضيع ورده من القرآن, والدعاء وقيام الليل, أكثر إنسان حيي عايشته, وفوق ذلك مازن لم ينس نصيب روحه من الحياة, فهو مرح ضحوك, وحنون", متابعةً وهي تُحاول جاهدة أن تُخفي دموعها :" أكثر ما سأشتاق إليه صلاة جماعة يؤمني بها مازن, تنتهي لحظات حانية يُقربني فيها مازن إليه لنقرأ الأذكار سوياً كما كان يفعل".

كان أماً لها حين أتاها ألم المخاض ! نام إلى جانبها في المستشفى ولم يسمح لأحد أن يكون أقرب إليها منه في وجعها ,أمسك بيدها وتحمّل عنها عبء الأبناء في مرحلة دراستها الجامعية خاصة فترة الاختبارات, كان صديقها حين احتاجت لسندٍ تتوكأ على كتفه, وناصحاً إذا ما احتارت بين أمرين .

ولا تستذكر أن "زعل" ما حدث بينهما تجاوز الساعات ! فمنذ اجتمعنا قطعنا وعداً لبعضينا أن يكون أحدنا مبادرا لإنهاء الخلاف, وهذا ما كان يحدث دائماً وعلى الأغلب يكون سبب الخلاف "الاشتياق" حين يغيب مازن طويلاً عن البيت لانشغالاته المتراكمة على كاهله.

محمد وسما ..!

حين قرر ناهد ومازن أن يُصبحا أبوين .. لم يكن يُدرك أحدهما ماذا يعني أن يحوم قلبه خارج جسده, أنجبا محمد (4 أعوام) ثم سما (عام ونصف) .. كانت روحه فيهما, يسعى لأن يُقدم أفضل ما لديه كأبٍ لهما من مشاعر ومواقف وتربية حَسنة كما تُحدثنا ناهد.

محمد .. كان في بطن أمه, حين يسّر الله لوالده الحج إلى بيت الله الحرام عام 2012م , فعند أول نظرة للكعبة الشريفة تدفقت إلى قلب مازن مشاعر الحب والشوق إلى ولي العهد المنتظر, فكانت دعوته أن يتولى الله ابنه برحمته ويصنعه على عينه ويستخدمه بالطاعة, وهذا أكثر ما يطمئن فؤاد أمه عليه منذ ولادته.

أما سما .. مُدللة أبيها , فكان يحرص ألا يُريها من أوجه الحياة إلا الفرح, ولا يُذيق فؤادها الصغير المملوء بحبه إلا العطف والحنان, تستذكر ناهد آخر موقف لمازن مع سما في رحلتهم الأخيرة " وقعت صغيرته على الأرض فُخدش أنفها جرحاً بسيطاً, لا يستدعي الخوف أو القلق, لكن لهفة مازن نحوها وعناقه الشديد لها يُبدي لمن لم يُعايشه مع أبنائه, أن ابنته جُرحت جرحاً عميقاً ", فهو حنون على أبنائه للحد الذي طلَب من ابنته السماح لأنه لم يتمكن من حمايتها أثناء لعبها.

كالقمر بين الحضور

مازن لظروف أمنية لا يقِف أمام الكاميرات, ولا يُحب الظهور ويسعى لذلك ما استطاع, لكن حدثاً فريداً يعني له الكثير كزوجٍ وفيّ ومخلص لزوجته, ناهد التي تخرجت قبل أسابيع من الجامعة الإسلامية, كانت تنظر بحبٍ وامتنان من منصة التخرج على زوجها الذي يجلس كالقمر بين الحضور _ على حد وصفها_, وما أن نُودي اسمها إلا ووجدت مازن بجانبها يقِف ليلتقط الصورة الأولى والأخيرة لهما في هذه الحياة, تدفقت كل المشاعر الجميلة إلى فؤادها, ولأن النساء يشعرن غالباً أن الدموع أسرع وسيلة للتعبير عن مشاعرهن بكت ناهد وأبكت الحضور.

طوباس

كل ذكرياته الجميلة تكومت هناك .. حيث جنته في الأرض, طوباس تعن على باله كثيراً , يبكيها اشتياقاً لا سبيل يُوصله إليها, سوى سلواه بالذكريات, فالإبعاد نار اكتوى بها كغيره من المبعدين عن وطنهم وذويهم, كان لديه أمل بالعودة ويصرّ أن يُشارك ناهد هذا الأمل, وفي آخر مكالمةٍ حدّث فيها والدته ليلة الخميس طلب منها تصوير بلدته الجميلة وما حول بيتهم والأماكن التي يُحبها فيها, ومع أنه أحب غزة حباً جماً وأهلها أحبوه أكثر؛ لكن يبقى بيته في طوباس حبه الأول؛ ربما والدته التقطت صوراً له , أما المؤكد أنه لم يرها, فما بين طلبه وموعد رحيله ساعات فقط .

وبينما كان مازن على موعدٍ يوم السبت 26/3/2017 لتقديم امتحان في برنامج الماجستير بجامعة أبو ديس فرع غزة , فاز بامتحانٍ آخر وهو الشهادة التي لطالما تمناها, ففي جنازة الشهيد اكتظت شوارع غزة بالمشيعين, كما لو أنها طوباس أتوه من كل حدبٍ وصوب يهتفون للبطل الذي دوّخ اليهود منذ ريعانة شبابه, فطُورد وسُجن وأُبعد ثم اغتيل غدراً بأربع رصاصاتٍ كاتمة للصوت, هل يعرف قاتله أن أكثر ما يكرهه مازن هي صِفة الغدر والخيانة؟ فأوجعه بها!

كم كان هذا "المازن" حكيماً, قليل الكلام, سديد الرأي, كتوماً فأسرار عمله بمثابة أمانة في عُنقه, إذ لم تكن تعرف ناهد تفاصيل عمله وانشغاله المتكرر عنها, سوى أنه قائد عسكري في تنظيم يقود رأس الحربة ضد الكيان الاسرائيلي, ورغم خوفها الدائم عليه, كانت تُرافقه بالدعوات وتستودعه الله في كل وقتٍ وحين, حتى أتاها نبأ الشهادة لتعرف فيما بعد من هو زوجها الصامت.