فجر السادس من آذار/ مارس استشهد باسل الأعرج، بعد رحلة مطاردة قصيرة، انتهت بمداهمة الاحتلال لمخبئه في رام الله واشتباكه معه ثم استشهاده، وفي مساء الرابع والعشرين من الشهر نفسه، اغتيل في غزة، برصاصات مكتومة الصوت، مازن فقهاء، أحد أسرى حماس المحررين، وقادتها العسكريين في الضفة الغربية، والمبعد إلى غزة بعد الإفراج عنه في صفقة وفاء الأحرار، وكلا الحادثين حظيا باهتمام جماهيري فلسطيني كبير.
يقف كل من الشهيدين على أرضية المقاومة، ولكن من موقعين يحيلان إلى التنوع والتضافر، لا إلى الاختلاف والتضاد، بوعي متحصل لدى المقاومين أنفسهم، أكثر من المعقبين على حادثي استشهادهما، فباسل، كعشرات الشبان والشابات الفلسطينيين الذين حوّلوا سعيهم -منذ أواخر العام 2015 وحتى الآن- إلى فعل مقاوم مؤثر، وكمئات حالات المقاومة في التاريخ الفلسطيني الحديث والمعاصر؛ انطلق من سؤال الموقع، وكان موقعه فردًا فلسطينيًّا، مشغولًا بثقافة المقاومة، ولا ينتمي لأي من التنظيمات الفلسطينية القائمة.
ومازن فقهاء، انطلق كذلك من سؤال الموقع، «ما هو موقعي إزاء مقاومة الاحتلال؟»، بيد أنه التحق مبكرًا بأكبر فصائل المقاومة الفلسطينية، وهي حركة حماس، وساهم، من خلال كتائب القسام، جناحها العسكري، في قيادة المقاومة في الضفة الغربية أثناء انتفاضة الأقصى، وقاد عمليات عسكرية كلفت الاحتلال عشرات القتلى والجرحى، وأدت به بعد رحلة مطاردة قصيرة إلى السجن المؤبد تسع مرات في سجون الاحتلال.
امتلك الشهيد مازن معرفة خاصة بالعمل المقاوم، اكتسبها من فلسطينيته وانتمائه التنظيمي ثم ممارسته الفعلية للمقاومة، وامتلك باسل معرفة نظرية اكتسبها من انغماسه بقضية شعبه وتوجيهه اهتمام الثقافة والمعرفة بالاتجاه الصحيح، بعيًدا عن فذلكات ثقافية منبتة عن سؤالي الوقت والواقع، ثم قرر أن ينغمس أكثر في ممارسة عملية تفيد من معرفته النظرية تلك.
الذي اختلف لحظة زمنية، وربما طبائع شخصية، جعلت كلًا منهما في موقع آخر، ولكن على الأرضية نفسها وفي الاتجاه نفسه وفي قضية واحدة، ودون أي شعور بالتناقض أو الاختلاف، فالاتجاه المقاوم الذي ينتمي إليه مازن ظلّ يستنهض العمل المقاوم الفردي، ويشجعه بكل أدواته الإعلامية والتعبوية، بل إن كثيرًا من عناصره ومنتسبيه انطلقوا بعمليات فردية رغم انتمائهم التنظيمي، وبالإضافة إلى ذلك، كان الأداء العسكري الفذّ لفصائل المقاومة في غزة في الحرب الأخيرة، رافعة معنوية للفلسطينيين في الضفة الغربية، والذين أخذ العشرات من شبابهم يتلمسون طريق مقاومتهم وحدهم.
باسل لم يكن ينتظر تعافي فصائل المقاومة في الضفة الغربية كي تأخذ دورها نيابة عن عموم الفلسطينيين، ولم يكن يعتقد أن الانتماء التنظيمي وسيلة وحيدة للقيام بالواجب، ومع أن الأداة التنظيمية قد اتسعت لكفاح الفلسطينيين عقودًا عديدة، وامتزجت بلا انفصام بنضال الجماهير، فإنها قد تعاني في ظروف معينة، وهو ما يحيل إلى سؤال الواجب على الفرد الفلسطيني.
انطلاقًا من هذا السؤال، قرر باسل أن يجيب على سؤال الظرف الخاص في الضفة الغربية، وهو سؤال كان يستدعي مدّ الثقافة النظرية إلى الممارسة الواقعية، دون أن يقدّم بالضرورة الإجابة النهائية، لأن الإجابة خلاصة جهود متعددة من مواقع متنوعة، ولكن المهم المبادرة.
تاريخيًّا نهضت مقاومة الفلسطينيين بالمبادرة، التي لم تكن تخلو من أبعاد فردية، فحركة فتح تأسست بجملة جهود ومبادرات التقت في النهاية في فتح، وحركة حماس تأسست إلى حدّ ما على نحو شبيه، ومن قبل حركة الجهاد الإسلامي، وكتائب القسام طوال تاريخها لم تخل من جهود فردية، وهكذا.. كان باسل يعي أن المهم هو المبادرة، وأن المبادرة لا تنتظر أحدًا، وأن هذه المبادرة لن تذهب سدى، فإن كان سابقًا فهو مسبوق أيضًا، وما سيأتي يبني على مضى، وهذه المراكمة في تاريخ الفلسطينيين سوف تصنع شيئًا.
حتى إن الهبّة الجارية التي سميت «انتفاضة القدس»، ووصفت بأن أهم سماتها العمل الفردي، بدأت في الحقيقة بعمل منظم، قامت به مجموعة عسكرية تابعة لحماس، عملية بيت فوريك «إيتمار»، وتخللها عمل منظم كثير، وأخيرًا يزعم الاحتلال أن الشهيد مازن فقهاء كان يقف خلف العديد من المجموعات العسكرية في الضفة الغربية، وأنه –أي الاحتلال- أحبط أكثر من 400 عملية في العام المنصرم وحده، وفي إحصائية أخيرة نشرها الاحتلال في صحافته، زعم أن 50٪ من منفذي العمليات الفردية منذ تشرين أول/ أكتوبر 2015 يرتبطون بحركة حماس بشكل أو بآخر.
لا يقف باسل ومازن على أرضية واحدة فحسب، ولكنهما يقاتلان في الساحة نفسها، حتى لو كان مازن مبعدًا إلى غزة، وفوق ذلك يلحظان التكامل. قال لي باسل ذات مرة: «كتائب القسام في غزة جدارنا الذي نستند إليه»، مع أنه، أي باسل، لم يكن ينتمي إلى حماس تنظيميًّا، ولكنه كان ينتمي إلى كل فعل مقاوم، وجهد مقاوم، لأن المقاومة بما هي فعل وطني تحرري فوق الانحيازات الضيقة.
إنها حالة من وحدة الأرضية والهدف والاتجاه والقضية، بين مقاومين من موقعين مختلفين، أحدهما أخذ المسؤولية على عاتقه وتحرك فردًا يضع لبنة في كفاح الفلسطينيين، متجاوزًا محض التنظير المنغمس في الواقع إلى انغماس الذات جسدًا وروحًا في المقاومة، وآخر عمل ضمن جسم منظم، أثخن في العدو في الانتفاضة، ثم خرج من السجن بفعل مقاوم كسر إرادة الاحتلال (صفقة التبادل) ثم عاد لقيادة العمل المقاوم.
تبدو موضوعة الانغماس هنا عالية متسامية، يصعد إليها المقاوم، فردًا أو منظّمًا، ولا يعلو عليها بأفكاره وخطابه وفاعليته، على النقيض تمامًا من الانشغال الثقافي الشعبوي الذي يتورط فيه المعقبون على حوادث المقاومة والشهادة الفردية، باتخاذها وسيلة لتعويض النقص الذاتي، أو التغطية على التقاعس عن الفعل والمبادرة، بمهاجمة الفصائل، في عادة عاميّة مشهورة، يوظف فيها المعقب الناقص فعل المقاومة الفردي للهجوم على فصائل المقاومة، والنقص هنا إما نفسي، أو معرفي؛ نتيجة الانعزال النظري والذهني والروحي –على الأقل- عن الموضوعة، وهي المقاومة بتاريخها وواقعها وتفاصيلها، أو بكلمة أخرى، الجهل بالموضوعة.
على النقيض من ذلك كان باسل، يحاول أن يعوض عن ضعف المقاومة المنظمة في الضفة بذاته، بمعرفة دقيقة بظروفها. مثلًا كان الشهيد مغرمًا بعملية زقاق الموت في الخليل التي نفذتها الجهاد الإسلامي في تشرين الثاني/ نوفمبر 2002، وتطوع للتنظير لعملية أسر المستوطنين الثلاثة في الخليل التي نفذتها مجموعة تابعة لحماس في الخليل حزيران/ يونيو 2014، ناظرًا إليها على أنها نمط جديد غير مسبوق من العمل في الضفة الغربية، وفي حرب عام 2014 على غزة، اهتم بالبحث في النظرية الثورية المرئية وغير المخطوطة التي ابتدعتها المقاومة هناك.. ثم انتقل من هذه المعرفة، إلى محاولة التعويض بذاته، مقاتلًا وشهيدًا، عن الضعف القهري الذي تعانيه فصائل المقاومة بالضفة.
نلاحظ هنا، وحدة الشخصية بين مازن وباسل، لتتعزز حالة الكمال، مقابل حالة النقص، فباسل تجاوز ذاته، وسعى للتماهي مع مقولته وخطابه وتنظيره، وأراد سد العجز في الواقع بذاته، ونهض بالواجب وحمل المسؤولية دون انتظار، بينما استمر مازن على طريقه، عاش مطلع شبابه مقاتلًا مثخنًا في الاحتلال، ومطاردًا، وأسيرًا، ثم عاد ليقود المقاومة في الضفة الغربية من منفاه في قطاع غزة، فجعل وجوده كله لقضية المقاومة، وكرّس نفسه مزعجًا للاحتلال.
موقع إضاءات