صمتت عن صراخها من ألم الولادة للحظة، فأرادت أن تسمع صوت بكاء صغيرها وصرخته التي ستدوي في أذنها معلنًا قدومه للحياة، فقد خرج من أحشائها من كانت تترقبه لحظةً بلحظة ليقدم إلى الحياة، ويُملأ عليها وعلى زوجها البيت، فهو طفلها الأول، ولكن لم يصرخ، ولم يبكِ، ضربته الطبيبة المشرفة على ولادتها ولم يبدِ أي ردة فعل على ذلك، أصُمَّت أذانها أم ماذا حصل لمولودها؟، أخذته الطبيبة وبدأت بفحصه وعمل الاجراءات اللازمة ليتبين فيما بعد أنه تعرض لخطأ طبي أثناء الولادة أعاقه عن الحركة والقدرة على الكلام.
ليث جرادات (15 عامًا) بسبب نقص الأوكسجين لمدة 60 ثانية، حَرم والدته من سماعها لصرخة الحياة، وقال الأطباء لوالديه: "احمدوا الله على ما هو فيه، فقد كنا نتوقع أن يحدث له أكثر من ذلك"، ويقصدون أنه كان سيفقد الحياة.
بعد ثلاثة عشر يومًا دوى صوته في الحضَّانة، ليتسلل بصيص أمل لوالدته لترتسم البسمة على شفتيها، وتبرق نظرات عينيها بالفرح والأمل، رغم أنه سيعيش في مكابدة مع الحياة، ومواجهة معها، وسيحرم مما يعشقه الأطفال من لعب ومرح.
تقول والدته أم ليث: "كان تحدياً صعباً بالنسبة لي في تربيته ومعاملته، فسعيتُ بكل جهودي أن أعامله كأي طفل طبيعي، لأسهل عملية دمجه مع الآخرين، فلم أقبل أن أعامله معاملةً خاصة لما سيكون لها من أثر على نفسيته وشخصيته".
فلم تتوانَ هي ووالده عن إلحاقه برياض الأطفال، ومن ثم نقله إلى المدرسة، ولكنه ما أن بدأ يزداد عمره ويكبر أصبح يتفهم وضعه الصحي، وبدأت تواجه مشكلة مواجهته للآخرين وطريقة تعاملهم معه، ونظرتهم السلبية له، ولكنه لم يكن يسكت عن أخذ حقه منهم، فيقع في مشاكل بصورة دائمة مع زملائه، وتكمل حديثها: "في الصف الثامن لم يعد يتقبل المدرسة بسبب طريقة تعاملهم معه، وأصر على تركه للمدرسة".
ولكن والديه رفضوا فكرة عدم إكمال تعليمه، فهو سلاح الشخص الذي يمكن أن يُشهره في وجه الآخرين، فألحقوه بمدرسةٍ خاصة لذوي الإعاقة، وبعد عدة أيام لم يبتلع فكرة تواجده فيها، فتركها ليلتحق بمدرسةٍ مهنية تابعة لمركز تأهيل الشبيبة في مدينة الخليل ويتعلم مهنة الخياطة.
ووراء ماكينة الخياطة يجلس الطفل جرادات الذي يعاني من إعاقة في النطق والحركة على الكرسي، ويبدأ بتجهيز الماكينة وبيده المرتجفة لَضم إبرة الماكينة بالخيط، ليستعد لبدء تدريب يومي، وينصت بشكلٍ جيد لتعليمات مدربه.
وفي بداية التحاقه بالمركز كان يعاني الطفل جرادات من صعوبة الاندماج مع الآخرين خاصة بعدما قرر ترك المدرسة؛ فالتحاقه بهذا المركز الذي يعمل على تهيئة الطالب نفسيًا واجتماعيًا ومهنيًا، كان له الأثر الايجابي في تحسن شخصيته من نواحٍ مختلفة.
وقد لاحظ والداه تحسنا ملحوظا في تصرفاته وسلوكه، كما أنه لا يحب أن يرتبط بالبيت، بل يقضي جل وقته بعد عودته من المركز في المشاركة مع الأولاد من أهل الحي في المرح واللعب وفق استطاعته.
وفي أقل من عام استطاع أن يتقن هذه المهنة وتعلم قواعدها ومبادئها، فحسَّنت من واقعه ومستقبله، وقد أصبحت بيده مهنة بدلًا من أن يكون عالة على المجتمع، وانخراطه فيه، ويأمل الطفل جرادات أن يتوفر علاجا يخفف من إعاقته الحركية، ومركزا يتلّقى فيه علاج النطق.