تفرض كتائب القسام طوقًا مشددًا على المعلومات المتعلقة بأي حراك خاص بملف الجنود الأسرى، كما أن المستوى السياسي لحماس يتصرف بعناية فائقة في تصريحاته حول هذا الملف؛ فحماس لديها استراتيجية خاصة في إدارة الملفات الحساسة ومنها (ملف التبادل)، ونلاحظ أهم ملامحها وهي: السرية التامة، والابتعاد عن فوضى التصريحات، وعدم كشف النتائج للإعلام إلا عند التنفيذ أو بمعنى أدق عند الانتهاء وإنجاز الملف كاملًا.
قد يجد مراقبون أن هذه السياسة التي تتخذها حماس كاستراتيجية متبعة في ملف الأسرى ناجحة إلى حد كبير، وقد يختلف آخرون مع هذا السياق، ولكن إذا ما تحدثنا بموضوعية أكثر حول هذا الملف؛ ربما كانت حماس محقة في تصرفاتها والتي نجد لها مبررات منطقية، فحماس تعد أن أي معلومة تخرج للإعلام دون ثمن ستكون خسارة من جانب ومكسبًا في الوقت ذاته للعدو الإسرائيلي.
إضافة إلى حرص الحركة على التعمية وقطع إمداد المعلومات التي يتلهف لها ضباط الاستخبارات الذين يحاولون الإنصات من قرب لأي معلومة أو تسريب أو حتى خطأ، لأن العدو الإسرائيلي يفاوض الآن لكنه ينظر إلى الخلف طوال الوقت، فعملاؤه يبحثون، وطائرات الاستطلاع تكثف طلعاتها وحركاتها الجوية، في حين تقوم طواقمه الفنية بتعقب الاتصالات وتخترق الأجهزة بحثًا عن صيد ثمين يكون مفتاح الصندوق.
وفي الوقت ذاته فإن حماس تراعي الظروف النفسية تجاه الأسرى وعائلاتهم، فهم ينتظرون كل معلومة يمكن أن تعيد الأمل إلى نفوسهم، فإذا ما تنامى إلى أسماعهم بأن حركة حماس وجناحها المسلح قد قطعوا شوطًا كبيرًا في هذا الملف وأفصحوا عن تفاصيل تطمينية للإعلام والجمهور وذوي الأسرى، فكيف يمكن تصور المشهد إذا كان يناور العدو وتراجع عن التزاماته وأغلق الباب من الجديد كعادته؟ إنه بكل تأكيد مشهد صادم لمن علقوا آمالهم على ذلك، لكنه أحد السيناريوهات المتوقعة لدى المطلعين على هذا الملف.
وهذه إحدى الفرص التي يمكن أن يستخدمها العدو لتوجيه لكمة إضافية للمقاومة وجمهورها والمساس بمصداقيتها أمام الرأي العام عبر اتهام الحركة مثلًا بأنها وضعت العراقيل وأفشلت جولة التفاوض غير المباشر، فهنا تكون الانعكاسات النفسية أشد، وهنا تدرك قيادة المقاومة جيدًا حجم المخاطرة وطبيعة المناورة التي يمارسها العدو، والذي يمارس هجمة غير عادية من خلال إعلامه الهادف إلى التأثير المباشر في قناعات الجمهور الإسرائيلي والفلسطيني على حد سواء.
فمن جانب يتم تسويق موقف رئيس وزراء العدو أنه جاد في إعادة الجنود ويطمئن الجمهور ويرفع حظوظه وأسهمه السياسية عبر الحديث عن تقدم ملحوظ، ومن جانب آخر يعمل على إرباك الشارع الفلسطيني عبر معلومات وتسريبات متضاربة يديرها الرقيب العسكري وأجهزة الأمن المتخصصة، خصوصًا في ظل صمت قيادة المقاومة عن الحديث في أي تفاصيل وابتعادها عن حالة النفي أو التأكيد تجاه ما يبثه الإعلام الإسرائيلي إلا في حدود ضيقة.
لكن يمكن القول إن هناك قرارًا لدى قيادة حماس وجناحها المسلح بإنجاز الملف وعدم تقديم أي خطوة إلا بثمن مجزٍ ومعروف، ولا يمكن أن تكون هناك بوادر وتفاصيل مجانية، فجميع الوسطاء يعلمون شروط حماس ويتفهمون مطالبها المشروعة، وأعتقد أنهم لن يجدوا جوابًا عن أي سؤال يطرحه الإسرائيلي ما لم يكُن الثمن على الطاولة، وفي حقيقة الأمر أعتقد أنه لا يزال الجهد في بدايته، ولو كان هناك تقدم لبرزت الخطوات العملية على الأرض وليس في الفضاء الأزرق.