لَعلّي مثل كثيرين ندرك أن السلطة الفلسطينية تآلفت مع انتهاكاتها للحريات حتى صارت جزءاً من تكوينها وسلوكها اليومي، وما عاد ممكناً تصوّر مرور بضعة أيام دون تسجيل اعتقالات في صفوف المواطنين الفلسطينيين في الضفة على خلفية الرأي السياسي أو النشاط التنظيمي، إضافة بطبيعة الحال إلى نشاط مقاومة الاحتلال الذي ما يزال مصنفاً ضمن الأعمال الأكثر خطورة التي تستدعي اعتقالاً وتعذيباً في سجون السلطة، قبل أن يعيد الاحتلال اعتقال من يفرج عنه بهذه التهمة.
هذا الواقع تعيشه الضفة الغربية منذ سنوات طويلة، وتحديداً منذ غدا ما يعرف بالتنسيق الأمني صمام أمان بقاء السلطة حاكمةً ومسيطرةً في الضفة، وإن كان الأصل أن يظل هذا المسلك محلّ استنكار شديد، وألا يتم الاعتياد عليه إلى درجة أن يصبح مجرد نشاط إحصائي للانتهاكات التي تمارسها السلطة، فإن فعل الاعتقال هذه الأيام وفي ظل أزمة فيروس كورونا يبدو قبيحاً للغاية، ويكشف عن تهاوي ادعاءات حرص السلطة على سلامة (شعبها)، ليس فقط في ظلّ إصدار عفو عن كثير من المعتقلين الجنائيين، بل لأن سبب معظم الاعتقالات الأخيرة يدعو للغضب وليس الدهشة من سلوك سلطة تعتنق سياسة التفرد وإقصاء المخالفين بالقوة.
إياد ناصر، شخصية اعتبارية معروفة في مدينة طولكرم، وأسير محرر من سجون الاحتلال، جرى اعتقاله على خلفية توزيعه طروداً ومساعدات على المحتاجين في منطقته، وجرى تمديد اعتقاله قبل أيام هو ومجموعة من المعتقلين السياسيين، يحدث هذا فيما الآلة الإعلامية للسلطة تجتهد في التسويق لنشاط لجانها الشعبية ودورها في مساعدة الناس، رغم أنها لا تنفق هذه المساعدات من جيوبها الخاصة بل من ميزانية السلطة المكلّفة أصلاً بالقيام على شؤون الناس وتفقّد احتياجاتهم في ظلّ حالة الحجر المستمرة منذ أكثر من شهر.
غير أن المستجدّات التي فرضتها الجائحة لم تنسِ السلطة بمستوياتها المختلفة حرصها على ألا يزاحمها أحد مكانها، وألا يحظى غيرها بالثناء، وألا يتاح لغيرها فرصة العمل حتى وإن كان عملاً إغاثياً خالصاً لا يبغي القائمون عليه ثناءً مقابلاً ولا يطمعون في سلطة أو جاه، لكنّ السلطة ترى غيرها بعين طبعها، ولا تتصور أن هناك من يمارس العمل الخيري انطلاقاً من مبادئه وإحساسه بضرورة نهوضه بالواجب، فتردّ الأمر إلى غايات التلميع وتحصيل الشعبية، وربما الطمع في السلطة، والتمهيد للانقلاب عليها.
في المقابل، نشاهد يومياً تقريبا عبر شاشة تلفزيون السلطة تقارير إعلامية عن نشاط لحركة فتح في غزة، ولجان اجتماعية شكلتها أو ساهمت فيها، بل يبدو لمن يتابع هذه التقارير أن فتح بثقلها التنظيمي الذي لم يُمسّ بالاستهداف قد انخرطت في نشاط مجتمعي هناك، وتعمل بشكل علني ودون قيود.
لقد اختُبرَتْ السلطة وحركة فتح في محطّتين مؤخرًا، كان المؤمّل فيهما أن تكفّ عن نهجها الإقصائي، لكنها لم تفعل، الأولى عقب إعلان صفقة القرن وما فرضته من تحديات، والثانية خلال ظروف فيروس كورونا، وقد تطلّب الحدثان منها نزوعاً لمد يد التعاون والشراكة مع غيرها، أو على الأقل الكف عن سياسة استهداف خصومها وتغييبهم وإضعافهم، غير أنها اختارت الاستمرار في التمسك بنهجها الأصيل المستند إلى الهيمنة والتسلط والإقصاء وإضعاف الخصوم.
بعد كل هذا، سيكون من السذاجة المراهنة على إمكانية إحداث اختراق في حالة الانقسام الفلسطيني، فيما تستمر السلطة بتغذيته بممارساتها الميدانية المختلفة، حتى وهي تتباكى على المصالحة شعاراتيًّا، ومن السذاجة أيضاً أن نجد من يستفزّه الحديث عن هذا الواقع، ولا يستوعب انتقاد السلطة، مصنّفاً من يفعل ذلك بالتورط بالمناكفات، بينما تراه يغضّ الطرف عن جوهر الانحراف وأسّ البلاء، فيما يبدو أن سياسة التدجين قد فعلت فعلها فيمن يتهاون مع الخطيئة ويستفزه انتقادها.