كل نظام سياسي، وكل فوضى، وحتى كل حرب، لا بد من أن يتخذ وضعًا يُصبح عاديًّا بالنسبة إليه. وهذا العادي يختلف في نظام مستقر، عن العادي في الفوضى، وهذه وذاك يختلفان عن العادي في الحرب (يصبح القصف عاديًا مثلًا).
وهذا العادي يصبح مكررًا ثم مألوفًا، ويُبدأ التعامل معه، وقد أصبح مقبولًا وممارسًا، سواء تحول إلى عُرف أو قانون. ثم لا بد بعد ردح من الزمن أن يقع عليه ما يشبه الصاعقة، أو ما يشبه الزلزال، فإذا ما كان عاديًا ومألوفًا وعُرفًا وقانونًا يصبح غير قادر على الاستمرار. وهنا لا بد من اتخاذ إجراءات أو قرارات استثنائية لمواجهة هذا القادم الجديد الذي راح يفرض سلطانه.
العالم على مستوى عام، وكل دولة من دوله، وصولًا إلى كل فرد، يواجه اليوم حالة تفرض الخروج على ما كان عاديًا ومألوفًا وعُرفًا وقانونًا، ليدخل في حالة اتخاذ الإجراءات أو القرارات الاستثنائية.
وتزيد صعوبة الإجراءات والقرارات الاستثنائية بتناسب طردي مع حجم الزلزال وارتداداته. وقد تصل الاستثنائية إلى مستوى قد لا تحتمله الإرادة، ولا يتقبله العقل، فتجد طريقها للتطبيق بما يفوق احتمال الإرادة وتقبل العقل. وهنا قد تسقط الخطوط الحمر، وما كان ثابتًا ومبدأ.
ولعل أخطر ما يتخذ من إجراءات وقرارات استثنائية؛ حين تتهدد حياة الإنسان. فالحفاظ على الحياة كما تفرضه طبيعة الحياة والخلق تقع بالنسبة إلى البشر فوق كل الاعتبارات. طبعًا "الشاذ" هنا هو موقف فرد يحمل قضية أو عقيدة، ويكون قد هيأ نفسه للتضحية أو يعتبر أن قضيته أو عقيدته فوق قانون الحفاظ على الحياة وما تفرضه طبيعة الخلق والحياة. ولكن هذه الحالات لها خصوصيتها وقراءتها في مكان آخر غير هذا المكان.
العالم اليوم على مستوى دوله ومجتمعاته وأفراده يواجه حربًا شاملة شنها عليه العدو الذي يحمل اسم "كوفيد 19"، وهذا العدو يهدد حيوات الملايين، فضلًا عما يهدده في مجالات الاقتصاد والمعيش والاجتماع. فالاقتصاد مهدد بالركود وبتوقيف العمل والإنتاج وإغلاق الأسواق وتعطيل المواصلات، والمعيش مهدد بفقدان القوت ونقصان التغذية وتفاقم المجاعات، وأما الاجتماع فمهدد بكل ما هو اجتماع كفرض العزلة على الأفراد، أو عزل المدن والقرى، أو إغلاق المدارس وكل أمكنة الاجتماع للصلاة أو للثقافة، أو للسياسة، أو للهو. وهنا وهناك وهنالك قد يصل الأمر إلى القول: قطع الأعناق ولا قطع الأرزاق، وقطع الرقاب ولا فقدان الأحباب.
فإلى جانب ذلك كله يواجه العالم عمومًا، والعرب والمسلمون خصوصًا، وفلسطين على أخص الخصوص؛ مشكلة السجون، ومن ثم استحالة درء كورونا عنها، وفتكه بنزلائها.
فما أسهل الصعوبة الناجمة عن إغلاق المدارس والجامعات والكنائس والمساجد، وأماكن العمل، والساحات العامة والمقاهي والمطاعم والأسواق؛ أمام إطلاق الفلسطينيين الأسرى والموقوفين في سجون الكيان الصهيوني.
السجون من أشد الأماكن اكتظاظًا وإهمالًا من ناحية الصحة والنظافة والعناية الطبية، مما يجعلها مغرية لاقتحامها من قبل كورونا.
طبعًا هذه الإشكالية تواجه كل دول العالم، وستجنح الغالبية إلى تبييض السجون، أو لإصدار عفو جزئي، يخفف إلى أقصى حد من نزلائها.
على أن حالة الكيان الصهيوني تشذ عن حالة كل دول العالم، فهو لم ينشأ نشأة طبيعية. فقد تشكل من مهاجرين استوطنوا فلسطين بحماية الحراب البريطانية، ثم شن حرب اقتلاع للشعب الفلسطيني ليقيم كيانه مكانه عام 1948، واحتل فيها 78 في المئة من فلسطين، وشرد بالقوة والإرهاب ثلثي الشعب الفلسطيني، ثم احتل ما تبقى منها في حرب 1967، وشرد أكثر من مئتي ألف. ولهذا إذا جاء ليحل مشكلة سجونه فسيميز المسجونين المجرمين من المستوطنين، ويبقي على الأسرى والموقوفين الفلسطينيين.
يقدر من 1967 (منذ احتلال الضفة الغربية وشرقي القدس وقطاع غزة) أن من دخلوا السجون الصهيونية حوالي المليون على ذمة بعض الإحصاءات، وأما في الوقت الراهن فيقدر العدد بخمسة آلاف أو يزيد، وأكثرهم يحملون أحكامًا مؤبدة أو لعشرات السنين، ومعهم 900 من الموقوفين إداريًا بلا محاكمات، وبعضهم جُدد توقيفهم، هكذا لأكثر من عشر سنوات، وذلك مع كل نهاية ستة أشهر، فتجدد ستة أشهر أخرى مكررة إلى ما شاء قادة الكيان المغتصب.
إن جميع الأسرى والموقوفين جاءت بهم إلى السجن مقاومة مشروعة وفقًا للقانون الدولي، ولقرارات صدرت عن هيئة الأمم المتحدة، أقرت للفلسطينيين تحت الاحتلال بحق المقاومة بكل أشكالها، بما فيها المسلحة، الأمر الذي يعني أن هؤلاء في وضع من الأسر أسمى من أسرى الحرب. فهم أسرى قضية عادلة وأحكامهم باطلة من ناحية قانونية؛ لأنهم جميعًا أسروا بسبب مقاومتهم للاحتلال. وهي مقاومة مشروعة من وجهة نظر القانون الدولي وقرارات هيئة الأمم في حالة الاحتلال قرار رقم 3103 سنة 1973، وقد خص احتلال 1967 بالذات.
المطلوب في ظروف الحرب العالمية الشاملة ضد كورونا أن يصدر قرار من محكمة العدل العليا ومحاكم أخرى، وتصدر نداءات وتمارس ضغوط لإطلاق كل الأسرى والموقوفين بلا قيد أو شرط. وذلك لأن بقاءهم في السجون المكتظة في ظروف انتشار كورونا يشكل تهديدًا لحياتهم، وهو جريمة إبادة متعمدة من جهة، وجريمة تواطؤ مع كورونا وتشجيعًا لانتشاره واستفحاله من جهة ثانية.
هذا ولا يجب أن يُسمح لسلطات الكيان الصهيوني بأن تحتج بأسباب أمنية في رفض إطلاقهم، لأنها سبق وأطلقت الآلاف وبأعداد أكبر في التبادل المتعدد للأسرى، كما أنها تطلق من انتهت محكوميته بحجة الدواعي الأمنية. ولهذا فإن حجة الدواعي الأمنية ساقطة أمام الخطر الأكبر الذي يمثله وباء كورونا على العالم. أما السبب الأساسي في التشدد في إبقائهم في السجون، فيرجع إلى أيديولوجية الانتقام والثأر والإبادة، وليس التمسك بتنفيذ "القانون" أو الخوف الأمني.
ومن هنا وجب حشد كل الجهود، عالميًّا وإسلاميًّا وعربيًّا وفلسطينيًّا ورأيًا عامًّا، بما يشمل أيضًا رفع الدعاوى القضائية للضغط على الكيان الصهيوني لإجباره على إطلاق الأسرى والموقوفين الفلسطينيين، بل وإيصال القضية إلى هيئة الأمم: مجلس الأمن والجمعية العامة. فهذا العدو ما لم تضع رطلين أمام رطله لن تنجح معه سياسة أبدًا.