مضى أكثر من شهر على غزوة كورونا الشرسة لدول العالم قاطبةً والجنس البشري عمومًا، انطلاقًا من مدينة ووهان الصينية، التي تماثل سكانها للشفاء، وخلت مناطقها من الإصابة، وتعقمت مرافقها من الفيروس، وتهيأ أهلها ومواطنوهم لمغادرتها بحرية، والتنقل بأمانٍ بينها وبين مختلف المدن الصينية، بعد أن أعلنت السلطات الرسمية الصينية التي أخضعتها وغيرها بلا تهاونٍ أو تساهلٍ، لإجراءاتٍ صحيةٍ وقائيةٍ أشبه بالإجراءات العسكرية، أنها تجاوزت المرض وتخلصت من الفيروس، وانتصرت على الوباء، وأصبحت من الصحة والسلامة في الدرجة التي تمكنها من تقديم الخبرة والتجربة بجدارةٍ، والعون والمساعدة بإنسانيةٍ، لجميع دول العالم التي تطلبها وتنشدها، لثقتها في التجربة الصينية التي أثبتت فعاليتها، وطمأنينتها إلى الخبرة العملية والعلمية الصحيحة التي تراكمت لها.
وقفت الصين وحيدةً في مواجهة الخطر الداهم، وتصدت له بكل قوةٍ وحزمٍ، ونفذت خطةً وقائيةً صارمةً، شهد العالم كله على شدتها ودقتها، وتناقل سكان الأرض جميعًا صورًا ومشاهد من أرض الوباء، فذهلوا من السرعة الفائقة، والجاهزية الكبيرة، والطواقم الطبية الحاضرة، والمستشفيات الطارئة، والحزم الصارم، والشدة المتناهية، والحصار المحكم والعزل التام، ثم النتائج الإيجابية اللافتة، التي أظهرت أن التنين الصيني لم ينقرض، وأنه كالأساطير ينبعث من العدم وقت الحاجة وحين الضرورة، وأنه ينتصر بالعزيمة والإرادة والتحدي والمجابهة، وها هي اليوم تتراجع عمليًّا عن صدارة الدول المصابة، وتتأخر عن إيطاليا وأسبانيا وأمريكا التي ستأخذ مكانها في الصدارة، وستحل محلها على ما يبدو في مقدمة الدول الموبوءة المصابة.
لم تتوقف الصين التي يقترب عدد سكانها من المليار ونصف المليار نسمة، عند تهكم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وإدارته واستخفافه بهم وتعاليه عليهم، ولم يلتفتوا إليه وينشغلوا به عن همومهم، بل قابلوا سخافته بالعمل، وواجهوا تهكمه بالصبر، وتحدوا استخفافه بالجد، وأثبتوا له ولإدارته التي جارته في حمقه وساوقته في سخفه، أنها لم تذعن للمرض، ولم تستسلم للوباء، ولم ترفع صوتها بالصراخ والعويل، رغم فداحة الخطب وعِظَمِ المصيبة، ولم تفت في عضدها محاولات عزلها عنصريًّا، والتنمر عليها سياسيًّا وحصارها اقتصاديًّا، بل تحاملت على نفسها ونهضت، وعضت على جرحها وانطلقت، واعتمدت على قدراتها، ووظفت كل طاقاتها، حتى تمكنت من أن تقول للعالم كله إنها تطهرت من الوباء وانتصرت على الفيروس، ثم سيَّرت إلى أمريكا التي تهكمت عليها طائرةً محملةً بمختلف الأدوات والمعدات الطبية المخصصة لفحص فيروس كورونا والوقاية منه.
شمرت الصين بكل قطاعاتها عن سواعدها، وشحذت همتها وأطلقت العنان لطاقاتها، وراجعت أخطاءها، وحاسبت المسؤولين عن إهمال التحذيرات المبكرة وإجهاض التنبؤات الأولى، وأعادت المكانة والتقدير للطبيب الأول الذي اكتشف الفيروس وحذر منه، وهو الذي أصيب بالداء وتوفي به، وشجعت الأطباء والعلماء، وفتحت المختبرات ومراكز الأبحاث العلمية لمزيدٍ من العمل للوصول إلى دواءٍ شافٍ وعقارٍ يعالج المرض، ويسيطر على الفيروس ويوقف انتشاره، ولعلهم قد قطعوا في هذا المجال شوطًا كبيرًا، ونجحوا في تجربة أدويةٍ فعالةٍ ولقاحاتٍ مساعدةٍ، بدليل شفاء أغلب المصابين، وتراجع مستوى الإصابات الجديدة ونقل العدوى، ورفع الحظر والسماح التدريجي للسكان بالتنقل.
ها هو القطار الصيني يتحرك وينطلق، حاملًا معه أجهزةً ومعداتٍ، وأدويةً ومعقمات، وقفازاتٍ وكماماتٍ، وغيرها مما صنعه وأحسن استخدامه في محاربة كورونا، واتجه بسرعةٍ قصوى بالكنوز التي يحمل نحو الدول المنكوبة والشعوب المصابة، ليقدم لها المساعدة الممكنة والعون المطلوب، إلى جانب الخبرة والتجربة، وبدأ بدول أوروبا الغربية المصنفة متطورةً ومتقدمة، لكن الفيروس عضها بنابه وآلمها، وأصابها في قلبها وقتلها، فرفعت الصوت عاليًا تولول وتستنجد، وتطلب العون والنصرة من حلفائها في الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية، الذين انشغلوا عنها بهمومهم الخاصة، وأوصدوا الحدود بينهم واحتفظوا بالمعدات لأجلهم، بعد أن انتشر فيهم الفيروس وفتك بالآلاف منهم، أما الثانية المغرورة فقد تخلت عن دول أوروبا كلها وتركتها، قبل أن يجتاحها الفيروس ويفتك بسكانها وينتشر بين ولاياتها.
لم تعد الصين تشكو من وجود الفيروس على أرضها أو بين سكانها، فقد حاصرته وخنقته، وقيدته وكبلته، فلم يعد قادرًا على الفتك أو التفشي كما كان، ولكنها أصبحت تخشاه من الوافدين إليها من الزائرين والمقيمين فيها، ومن سكانها العائدين إلى بلادهم، ولكنها أعدت العدة الكاملة لاستقبالهم، وتجهزت لتعقيمهم وتطهيرهم وعزلهم، وتهيأت للتصدي للمرحلة الثانية من المواجهة مع الفيروس الوافد، وهو مهما بلغ في قوته وشراسته، فلن يكون فتاكًا كالمقيم، ولا منتشرًا كالذي كان في ووهان وبقية مدنهم، ولعلهم قد طوروا له لقاحًا يحدُّ من نشاطه، ويوقف خطره، أو يقلل من مفاعيله ومضاعفاته قبل التوصل التام إلى علاجٍ شافٍ ينهيه ويستأصل شأفته.
بيننا وبين الصين خلافٌ ومشكلة وصراعٌ وأزمةٌ، وربما حقدٌ وغضبٌ وكراهية وعدوانية بسبب سوء معاملتهم للمسلمين من أبنائهم، والتضييق عليهم وحرمانهم حقوقهم، ومنعهم من ممارسة طقوسهم الدينية والتعبير عن انتماءاتهم العقدية، ولكن هذا الاختلاف يجب ألا يمنعنا من الاعتراف بدورهم، والإقرار بجهودهم، والإشادة بتعاونهم، وصولًا إلى اتفاقٍ معهم يعيد للمسلمين الصينيين كرامتهم، ويحقق لهم حريتهم في الانتماء والعبادة، والاستمتاع التام بكل حقوق المواطنة الصينية، المدنية والسياسية، لكونهم مواطنين أصلاء، وأصحاب أرضٍ وأتباع ديانةٍ سماويةٍ عظيمةٍ.