يُقال إن آذار هو شهر المرأة، ففيه يومان لها (يوم المرأة ويوم الأم)، وفيه يفتح الربيع أبوابه مقترناً بالخضرة والدفء وجمال الطبيعة، وهي عوامل تنبت في روح المرأة، وتتجلى عطاءً وتفانياً تجاه من حولها.
أعادتني حوارات صحفية أُجريَت معي في المناسبتين إلى واقع المرأة الأسيرة، سواء أكانت فتاة لها أمّ وأهل يتحرّقون شوقاً لها وقلقاً عليها، أو كانت أمّاً ذات أبناء، حبسها القيد عنهم، فكان الفراق قيداً يُضاف إلى قيدها المادي، ويُضاعف معاناتها وإحساسها بالاغتراب داخل السجن.
عادت أطياف الأمهات الأسيرات لتسكنني، وخصوصاً من عشتُ معهنّ تجربة مشابهة وحالاً واحدا، وكنت أرى أطياف الأرق حين ترتسم على عيون بعضهن وتصرف عنهن النوم إذا ما تذكرن أولادهن؛ أحوالهم وتفاصيل أيامهم واحتياجاتهم المادية والمعنوية، التي تعتقد الأم دائماً أنه ما من أحد يلبيها مثلها.
كانت الأسيرة (نسرين حسن أبو كميل) من غزة، تبتهج أيما ابتهاج وهي تحدثنا عن أولادها السبعة الذين فارقتهم عند اعتقالها على حاجز (إيريز) وكان أحدهم رضيعا، كانت تنفق أوقات فراغها في صناعة أشغال يدوية بأسمائهم من مواد بسيطة تعيد الأسيرات تدويرها داخل السجن، وكانت تكتب لهم باستمرار، وتخرج الرسائل مع كل أسيرة تتحرر، وصنعت لهم دفتراً زينته وغلفته بشكل جميل، وطلبت أن نكتب فيه لأولادها وبناتها، كتبتُ حينها لابنتها الكبرى وأنا أقبض في قلبي على إحساسي بابنتي الكبرى التي أجّلت عاماً جامعياً لترعى إخوتها في غيابي، قلت لها إن الابنة الكبرى أم ثانية، وإن حاجة إخوتها لحنانها ومودتها في غياب الأم لا يقل أهمية عن حاجتهم لمتابعة شؤونهم المادية، وإن هذه الرعاية من أختهم كفيلة بإحلال الاطمئنان في قلب الأم البعيدة عنهم. أدركتُ كيف أن أثر اعتقال الأم يتمدد حتى يطال زوجها وأبناءها فيدفعون معها ضريبة كبيرة، ويغالبون تحديات جسيمة في غيابها، فيما تغالب هي شوقاً لا يفتُر، وقلقاً لا يتوقف.
أما والدة الشهيد أشرف نعالوة التي عايشنا لحظة وصول خبر استشهاد ابنها إليها وهي في الأسر، فقد ظلت جرح الأسيرات النازف، كانت تكابد آلاماً أكبر من أن تحتملها من هي في سنها وحالها، فيما يتعمّق إحساسها بالاغتراب رغم رعاية الأسيرات لها والترفّق بها، لكن حالتها كانت مفهومة وقد اجتمعت عليها فجيعة الفقد مع الأسر والغياب وهدم المنزل.
كان يفترض أن تخرج أم أشرف نعالوة من السجن الخميس الفائت، في 19/3/2020 ، لكن إدارة السجن أجلت الإفراج عنها، ولنا أن نتخيّل حالها وقد وصلها خبر التأجيل، في ظل توْقها للحرية والاجتماع بأهلها وأبنائها.
اليوم، هنالك تسعة عشر أمّاً فلسطينية في سجون الاحتلال، من بين 43 أسيرة، وهنالك عشرات من الأمهات في معتقلات الاستبداد العربي، بعضهنّ منسيات، ليس هناك من يتذكرهن حتى في مناسبات المرأة المختلفة، سوى دائرتهن الصغيرة التي تتجرع مرارة فراق الأمهات، وتخيّل عذاباتهن خلف القضبان. وفي سجن الدامون الفلسطيني تعيش الأسيرات هذه الأيام في عزلة تامة، بعد منع الأهالي من زيارة أبنائهم في السجون، ومنع المحامين من زيارة الأسرى، وحيث يخلو سجن الأسيرات من الهواتف النقالة المهربة، فلم يعد لديهم سوى وسيلة تواصل يتيمة من جانب واحد، وهي الإذاعات المحلية التي يلتقطن بثّها، والتي تخصص برامج لتواصل الأهالي مع الأسرى، فيتصل الأهالي على هذه البرامج ليرسلوا للأسيرات تحياتهم وأشواقهم وأخبارهم، دون أن يصلهم من الأسيرات أي خبر.
وهكذا فإن واقع الأسر في زمن (الكورونا) سيزداد قتامة على جميع مكونات الحركة الأسيرة، وعلى الأسيرات خصوصا، فيما يبدو سجانهن المجرم غير آبهٍ بآثار انقطاع تواصلهن مع أهلهن، وغير مستعد لتقديم مبادرة إيجابية تتمثل في الإفراج عن جزء منهن، بل إن لؤمه يزداد وضوحاً حتى وهو منشغل بما يُفترض أن يرفع منسوب الإحساس الإنساني لدى البشر جميعا، وهو تلك الكارثة الصحية التي طالت وجه الأرض كلّها.