فلسطين أون لاين

مستقبل الشرق الأوسط في ظل الأوبئة الدائمة

...
مايكل نايتس

مع انتشار فيروس كورونا في العالم، شخصَتْ أنظار الدول إلى الصين التي نشأ فيها الفيروس. ولكن ما أثار اهتمامي بالفعل، باعتباري متابعًا لشؤون الشرق الأوسط على مدى العقدين الماضيين، هو ظهور الفيروس في إيران؛ تلك الدولة التي تعد شريكًا تجاريًّا للصين وتشبهها في نظام حكمها السلطوي والمخادع. وفيما ينصبّ اهتمام الأسواق المالية والزعماء السياسيين على وصول الفيروس إلى أوروبا والولايات المتحدة، فإن ما يحدث في إيران -وهي المركز الجغرافي المهم الذي يربط بين آسيا وأوراسيا وشبه الجزيرة العربية ودول المشرق- يجب أن يثير القدر نفسه من القلق.

تجلت التحديات التي تعيق مكافحة انتشار الفيروس في دولة لا تشتهر بشفافيتها في الرابع العشرين من شباط (فبراير)، حين ظهرت على نائب وزير الصحة الإيراني أعراض العدوى في مؤتمره الصحفي، ولم تكن قد مضت سوى ساعات قليلة على تصريح الرئيس الإيراني، حسن روحاني، الذي وصف فيه الوباء بأنه “مؤامرة يحيكها أعداء” إيران. وحتى بعد أن أقرّ لاحقًا بإصابته بالفيروس هو نفسه، قلّل نائب وزير الصحة من مدى خطورة الوضع وأصر على أن الخبر المتداول بكثرة عن وفاة 50 شخصًا في مدينة قم قد تم تضخيمه وأنها ليست هناك حاجة إلى فرض الحجر الصحي.

الواقع أن الاستخفاف بواقع الأوبئة العالمية ليس ظاهرة مقصورة على مسؤولي الحكومة الإيرانية، وإنما هي ظاهرة واسعة الانتشار حتى بين الخبراء في شؤون الشرق الأوسط الذين يميلون إلى التركيز على مخاطر الحرب والإرهاب بشكلٍ أكبر عند وضع تنبؤاتهم. لكن انتشار فيروس كورونا ليصل إلى مهد أقدم وأعظم حضارات العالم هو تطور جوهري يخلّف تبعات طويلة الأمد على المنطقة والعالم ككل، حيث قد تصبح الأوبئة العالمية قريبًا أمرًا عاديًا -وفي الوقت نفسه محرّكًا أساسيًا لمستقبل المجتمع.

من الأفكار الملفتة بين “الناظرين إلى المستقبل”، أوليتُ اهتمامًا للروائيين والاقتصاديين وعلماء الاجتماع والتكنولوجيين؛ حيث ثمة فكرةٌ تقول إن الأوبئة ستدحر مظاهر العولمة -أو حتى توقفها بشكل حاد. وفي رواية “ذي واينداب غيرل” (The Windup Girl) للكاتب باولو باتشيغالوبي التي تجري أحداثها في تايلاند في المستقبل، تم تصوير عولمة اليوم على أنها حقبة من الماضي يتم تذكرها باسم “التوسع”، في حين تكون التجارة العالمية قد انهارت أمام الأوبئة العالمية والحروب على الموارد، وتحولت إلى واقع جديد يُعرف بـ”الانكماش”.

وقد بدأت هذه المفاهيم بالتحقق في الشرق الأوسط، ولهذا السبب وُضعت الأوبئة بشكل متزايد في محور تنبؤاتي للمنطقة. فبالإضافة إلى الارتباط الوثيق للمنطقة بالعديد من الأماكن، كونها تشكل حرفيًا مركز الملاحة الجوية العالمية والطاقة والشحن العالمي، يزداد الشرق الأوسط ضعفًا بسبب الحروب والفساد والخدمات الصحية المتردية والأنظمة الحاكمة المخادعة التي قد تحاول التستّر على درجة انتشار الأوبئة العالمية في المستقبل، كما تحاول الحكومة الإيرانية أن تفعل اليوم.

وتعد مخيمات اللاجئين (مثل مخيم الزعتري للاجئين في الأردن الذي يبلغ عدد سكانه 80.000 شخص) أكثر الأماكن عرضةً لهذا الخطر. ويشكل اللاجئون والمهاجرون الآخرون الذين يتدفقون سرًّا إلى أوروبا عوامل خطر إضافية في انتشار الأوبئة عن طريق الشرق الأوسط.

من خلال الحروب الأهلية وأزمات اللاجئين في الوقت الحاضر، يمكننا استخلاص بعض المعلومات عن دور الأوبئة العالمية في رسم مستقبل العالم. وقد رأيتُ في سياق عملي كيف تتضافر العوامل المتعلقة بالإرهاب واللاجئين والموارد المحدودة لوضع تماسك المجتمعات تحت الاختبار.

أثارت ويلات تنظيم القاعدة، ردود فعل متباينة عند سكان الدول الضعيفة كالعراق وسورية واليمن. وفي بعض الأحيان، حاولت المناطق الأكثر استقرارًا عزل نفسها أو تقييد حركة المواطنين على اختلاف طوائفهم، أو حتى اكتناز مواردها الوفيرة (مثل الكهرباء) وحجبها عن الأجزاء المضطربة من الدول التي تشهد حروبًا أهلية.

وفي أكثر الأحيان صُدمتُ من مدى الانفتاح والترحيب اللذين أظهرهما “الميسورون” تجاه فقراء المجتمعات “الأقل حظًا” و”المبتلاة” بداء الحرب. غير أن الروابط الاجتماعية المُحكمة ونظرة الرحمة والرأفة بشكل عام والمجتمعات التي تتمتع بسيطرة خفيفة ستكون أبوابها للأسف مفتوحة على مصراعيها أمام الأوبئة المستقبلية، مثل فيروس كورونا.

أحد الأقاويل الشائعة التي تتردد الآن عن العولمة هو أننا نعيش في عالم يزداد صغرًا طوال الوقت، مما يعني أن السفر وطلب السلع أصبح أكثر سهولة وسرعة ورخصًا. ولكن، ماذا لو كان المستقبل يشبه “الانكماش” الذي تحدث عنه باتشيغالوبي؟

عند التفكير في منطقة الشرق الأوسط التي تشكل محورا تركيزيا، أستطيع تصوّر بعض الأمور التي قد لا تتأثر. سوف تستمر السلع في التدفق طالما كانت هناك حاجة إلى الهيدروكربونات، لأنه من الممكن تشغيل قطاع النفط والغاز مع عدد أقل من الأشخاص المحميين بشكل جيد، ولا تشكل صادرات الطاقة أي خطر للإصابة بالعدوى تقريبًا.

وفي المقابل، سوف تتغير حركة الناس بالكامل، مع تأثيرات اجتماعية واقتصادية عميقة على بعض أجزاء المنطقة. تخيّلوا تقلّص حركة الحجاج الوافدين إلى مكة المكرمة، أو خروج الاختصاصيين المغتربين من دبي، أو نهاية ظاهرة استيراد العمال الآسيويين إلى الخليج.

إن العديد من المجتمعات مبنيّة على السفر، ومن بينها العديد من الدول الغربية. (عندما حوصرتُ في المملكة المتحدة بسبب غيوم الرماد الناجمة عن ثوران بركان Eyjafjallajökull في أيسلندا في عام 2010، كان لديّ الوقت والميل لكي أتصوَّر كيف يمكن أن تتطور المملكة المتحدة تحت منطقة حظر طيران دائمة).

في إطار سيناريو الانكماش، حين يرغب الناس في العمل في بلد ما، قد يضطرون إلى الالتزام بالبقاء فيه لفترة طويلة جدًا، إن لم يكن إلى الأبد. وفي فيلم “كود 46” الذي تجري أحداثه في المستقبل القريب، تصبح كل التنقلات عبر الحدود عملًا بيروقراطيًا معقدًا ينطوي على خطر الاستبعاد الدائم. وقد تضطر الدول -بما فيها دول الخليج الملكية حصريًا- إلى إعادة النظر في قوانين الجنسية لتشجيع الهجرة المستهدفة.

ومع ذلك، فإن إحدى الحسنات التي يجنيها سكان الشرق الأوسط من هذا السيناريو قد تتمثل في حصر اقتصادهم بالساحة المحلية، وذلك بعد المرور بفترة تكيّف صعبة. ولعل هذا التطور سيحدث في كافة الأحوال بما أن تبلور تقنية الطباعة ثلاثية الأبعاد والتصنيع الإضافي وتقنية النانو ستخفف الحاجة إلى شحن الأصناف المختلفة من مسافات بعيدة، فيأتي الانكماش الناتج عن الأوبئة ليسرّع وتيرة هذا المنحى. وبذلك ستجد الدول التي تخطتها الثورة الصناعية في القرن التاسع عشر، ومن بينها معظم دول الشرق الأوسط، حافزًا جديدًا يدفعها بعيدًا عن الاعتماد على الواردات ونحو خلق فرص العمل.

وقد لا يتأثر انتشار الأفكار والثقافة في العالم تأثرًا مباشرًا بالانكماش الناجم عن الأوبئة، ولكن مع ذلك سيحدث ارتفاعٌ مفاجئ في مذاهب القومية والوطنية والحمائية التي بدأت بالفعل في الظهور ردًا على التأثيرات الاقتصادية والتنوع الاجتماعي للعولمة. وقد يكون العديد من الشرق أوسطيين سعداء جدًا برؤية التخفيف من فرض ما وصفه مساعد هنري كيسنجر، ديفيد يونغ بـ”خطر الثقافة المهيمنة” -وهو خطر أن تصبح كل الأماكن متشابهة بفعل العولمة، فتُمحى الاختلافات التي تبعث على الفرح والمفاجأة.

في مستقبل حافلٍ بالأوبئة العالمية، قد تصبح الدول القومية أكثر قوة لأنها تحدد بوضوح مَن الذي يمكن أن يدخلها ومَن يجب أن يخرج منها بناءً على جنسيته، ولأن حدودها مضبوطة ومراقبة جيدًا. ولكن الدول لن تزداد شرعية إلا إذا أثبتت فاعليتها عند خضوعها للاختبار، سواء أكان ذلك من الأوبئة أو من التهديدات الأخرى.

أما الدول غير الكفؤة التي تمتد حدودها البرية على مسافات طويلة وتتردى فيها أنظمة الصحة العامة -مثل روسيا وإيران وربما الصين- فقد تكون الأكثر عرضة للخطر في النظام البيئي الجديد من الأوبئة المتكررة. وفي هذه الدول الضعيفة، قد يكون الأثر الطبيعي المترتب عن الانكماش الناجم عن الأوبئة هو انقسامها إلى منظومات ثانوية أصغر حجمًا وأكثر تماسكًا -وربما أيضًا أكثر استبدادًا.

بينما يزداد عالمنا اليوم صغرًا، ثمة أسبابٌ وجيهة تدعو إلى التفكير في كيفية تأقلمنا (جماعيًا وفرديًا) مع العيش مجددًا في عالم أكبر تبعد فيه الأماكن الأخرى، وتصبح فيه الأطراف الفاعلة المحلية مجددًا سيدة مصيرها من دون منازع. وبينما تصبح الأوبئة العالمية سمة سائدة في النظام العالمي، فقد يكون “التوسع” قصير العمر تحت خطر الوصول إلى نهايته. كما أن بعض الأصوات المطالبة بالانعزالية في أميركا قد تجد في الأوبئة سببًا إضافيًا لاعتبار العالم مكانًا خطيرًا يجب تجنبه بأي ثمن. وفي المقابل، إذا ظلّت الولايات المتحدة تؤيد وجود النظام العالمي والأسواق العالمية، فسوف تحتاج إلى قيادة عملية دفاع جماعية ضد خطر الأوبئة -الزلزال العالمي القادم الذي قد لا يكون فيروس كورونا سوى هزة مبكرة وخفيفة من هزّاته.

المصدر / مجلة بوليتيكو