داخل معبر رفح، الساعة الحادية عشرة صباحًا؛ يجلس محمد طلال محمود (39 عامًا) على كرسي بلاستيكي بين ورود وأصوات عصافير تغرد على غصون الأشجار المحيطة به، يفسد صوتها الهدوء السائد في المكان وكأنه أشبه بـ "إجازة عمل"، وحيدا في الغرف المخصصة للحجر الصحي بالمعبر، حينما قدم من كوريا الجنوبية.
لم يكن محمود منقطعا عن العالم، بل مكنته فترة الحجر البالغة 14 يوما من متابعة سير العمل بشركته لتجارة السيارات في كوريا.
صحيفة "فلسطين" التي عايشت المشهد السابق خلال مرافقة جولة تفقدية للاطلاع على إجراءات الحجر، حاورت "محمود" بعد خروجه من الحجر وانتهاء الأسبوعين عن تجربته وتقييمه لمستوى الخدمات المقدمة لديه.
اليوم الأول للحجر
يرحل بصوته ليومه الأول وحيدا داخل المعبر: "قدمت لغزة لزيارة عائلتي بعدما أجريت كامل الفحوصات في كوريا، وكانت سليمة".
وحيدا متعبا، أمضى محمود ليلته الأولى داخل الغرف في الجانب الفلسطيني من معبر رفح البري الحدودي مع جمهورية مصر العربية، بعدما قطع مسافة سفر طويلة، لم يأبه بشكل المكان وتفاصيله قبل أن تشرق عيناه في الصباح؛ ليرى المكان مجهزا بكامل الخدمات الفندقية المناسبة من غرفة نوم منفردة، وكهرباء وإنترنت ومياه ساخنة ومدفأة.
ما إن تصل معبر رفح ستمر إلى الأمام بعشرات الأمتار عبر بوابة إلى أماكن "الحجر الصحي"، على اليسار توجد غرفة الأطباء والممرضين، منها تتم متابعته صحيا، وقياس حرارته ثلاث مرات يوميا.
بعد غرفة الأطباء، تدخل عبر ممر لمبنى متكامل يشبه شكل أبنية المدارس، مكون من كرفانات بيضاء كل واحد منها من طابقين، متجاورة على شكل مربع ناقص ضلع تضم 54 غرفة، مجهزة من الخارج بشكل متناسق يعكس شكلا مميزا.
من الداخل ترى الغرفة الخاصة بالحجر مجهزة بسرير ومدفأة ومروحة ومياه ساخنة وكهرباء وانترنت على مدار الوقت وتقدم لهم ثلاث وجبات يوميا، تحت رعاية وإشراف كادر طبي.
يبتسم قائلا بلهجة عامية: "عنجد وبصراحة كانت الخدمات بالمعبر ممتازة".
ما تقييمك لمستوى متابعة الأطباء معك؟ قبل أن يجيب عن السؤال السابق، يقول: "أتدري؛ كنت أخشى وضعي بمكان غير مناسب، لكن حدث عكس ذلك، فكان هناك أربعة كوادر مشرفة يقومون بفحوصات دورية لقياس درجة حراتي أربع مرات يوميا، يتعاملون معي بمنتهى اللطافة والود حتى أنني لم أجد شيئا سلبيا واحدا على طريقة أدائهم معي لأقولها".
"رغم أني كنت الشخص الوحيد بغرفة الحجر وقتها، لكن لم أشعر بالوحدة فكان الممرضون يمرون علي، يسألون إن كنت أحتاج لشيء، تفهمت كل هذه الإجراءات لأني أريد الذهاب لعائلتي متأكدا من أن النتائج سليمة" .. بهذه المعاملة التي ذكرها محمود كسرت وحدته.
- "كلما شعرت أنني بحاجة إليهم وجدت الطواقم الطبية أمامي" ..
بتلك الكلمات يدلل محمود على مستوى متابعة جيدة حظي بها.
وقت ممتلئ
لم يرفع محمود راية الاستسلام للفراغ؛ ساعده في هذا "الانتصار" بعض الخدمات هناك في أقصى جنوب القطاع، حتى بات العالم بين يديه، بنبرة صوت ممزوجة بالرضا تسبقها كلمات من الشكر وجهها للطواقم الطبية، يقول: "إجراءات النظافة كانت دورية، خدمة الإنترنت التي وفرتها السلطات مكنتني من متابعة شركتي لتجارة السيارات".
طبيعة عمله في تجارة السيارات تتطلب منه أن يبقى متصلا بشبكة الإنترنت على الدوام، ولأن الاتصال الدولي غير متوافر معه حينها، كان الحل الوحيد هنا شبكة الإنترنت المحلية بداخل غرف الحجر، ينبش في تفاصيل أيامه بإدارة شركته من المعبر، قائلا: "كون فرق التوقيت بين غزة وكوريا سبع ساعات، فكان وقت العمل بغزة هو الفجر واستمر لساعات عدة بمتابعة الشركة، فلدي موظفون كوريون وآخرون عرب، كنت متواصلا معهم من خلال خدمة الإنترنت "والفيس تايم" وكأني بكوريا، حتى أنني حاليا موجود مع أهلي وغير متفرغ للمتابعة معهم كما كنت في فترة الحجر".
"خلال وجودي هناك تطلب الأمر موافقتي على شراء مجموعة من السيارات، وتحديد السعر المتاح للشراء، كذلك موضوع صرف الدولار وتذبذب العملة أيضا وهذا تطلب مني المتابعة في عملية الشراء، وخطوط عمل يومية" .. هكذا تمكن محمود من إدارة شركته وإبرام صفقات مهمة من داخل الحجر.
ما إن تشير عقارب الساعة إلى الثامنة صباحًا، يبدأ الشاب ذو البنية الجسمانية القوية، في القيام بتمارينه المعتادة تحت الخيوط الذهبية، لا تفر تلك اللحظة من حديثه: "وأنت تمكث بمكان إجباري، المكان فيه جميل حولك الطيور والأزهار، تعد نفسك في عطلة وإجازة، تجلس تحت أشعة الشمس تحتسي القهوة وتمارس الرياضة ساعتين يوميا الأولى من الثامنة للتاسعة والثانية قبل المغرب".
ضحكة تغافله تكسر كلماته المتوازنة: "بصراحة كان وقتي ممتلئا ولم أشعر بالوحدة وما لقيت نقطة سلبية على الطواقم الطبية".
ما رأيك بجودة الطعام المقدم!؟.. يجيب بعفوية: "للأمانة جيد"، مكملا: "كانت تقدم لي ثلاث وجبات: إفطار، وغداء، وعشاء، وكانت كافية وممتازة".
" تجربتي جميلة، تفهمت إجراءات الحجر الصحي لأن ظرفي يتطلب أن أكون منفردا، والآن أفتقد تلك الطواقم الطبية التي تعرفت إليهم وسادت بيننا علاقات طيبة وود ".. بهذا يسدل محمود الستار على حديثه مع صحيفة "فلسطين"، وهو يجلس بين أهله بعد فترة غياب طويلة عن غزة، خرج من الحجر الصحي معافى سليما يجول القطاع بشوارعه ومخيماته ومناطقه المختلفة، بأريحية كاملة لا يخشى الاقتراب منه لا من قريب ولا من بعيد.