"الوقائي قالوا إنه لازم تعملوا إخلاء سبيل من المحكمة عشان أروح اليوم"، بصوت مبتهج حمل مؤمن نزال كلماته تلك إلى أمه عبر سماعة الهاتف، بعد 386 يومًا من الاعتقال على خلفية سياسية.. وبين الفرحة والشك بتكرار تجارب المرات السابقة بقي والدا مؤمن حائرين.
مرت دقائق تاهت فيها نزال بين أفكارها وتساؤلاتها الداخلية، قطعه رنين الهاتف مجددًا، كان المتصل هذه المرة ضابط من "الوقائي" الذي بادرها بالقول: "معكم حتى الساعة الثانية ظهرًا لتجيبوا إخلاء سبيل من محكمة رام الله عشان بدنا نروح مؤمن".
حتى الإفراج هنا كان أشبه بالخيال، فالمسافة التي تفصل منزل عائلة نزال بمدينة قلقيلية عن مدينة رام الله تتجاوز 90 كيلومترًا، وضع الضابط والدي مؤمن أمام تحدٍّ ومهمة صعبة وكأنه يريد تحميلهما مسؤولية فشل الإفراج عن نجلهما.
بين تلك القضبان، كان قلب الشاب المقيد طيلة عام وعشرين يومًا يئن، يغفو على حلم الحرية، يتوق إلى اشراقة شمس تلمسه، إلى قرى وجبال قلقيلية لكل شيء سرق من حياته، لدراسته وأصدقائه، لغرفته وسريره، وجلسة والديه، يريد الانعتاق ومفارقة السجن وجدران زنزانته.
انتظار طويل
بدا صوت والدة مؤمن وهي تقلب صفحات ذلك العام "الأسود"، سعيدًا وهي تتحدث عبر الهاتف لصحيفة "فلسطين".. اختفت فيه تلك المناشدات السابقة بعد أن استنشق ابنها أمس الأول حريته.
تقول شريفة نزال عن مهلة الساعتين: "لم نعرف ماذا نفعل فالمسافة طويلة، وهناك أزمة فيروس "كورونا" والمواصلات صعبة إلى رام الله، اتصلت بأخي ولحسن حظنا كان وقتها قريبًا من رام الله، فأودع أموال الكفالة بمحكمة الصلح برام الله، حتى وصلنا المحكمة الساعة الثانية ظهرًا وعشر دقائق".
كانت المحكمة توشك على إغلاق أبوابها، لكن العائلة حصلت على أمر الإخلاء بكفالة 5 آلاف دينار.
لم تقف المعاناة هنا، إذ كان عليهم متابعة تخليص عدد من الإجراءات لدى جهازي الشرطة والمباحث لأخذ إفادات بعدم وجود قضية لمؤمن لديهم تحول دون إنهاء اعتقاله، "وعند الساعة الرابعة عصرًا وصلنا الوقائي وخرجنا منه مع أذان العشاء".
وتتابع الأم: "حينما رأيته يخرج من عتبات السجن، كانت ملامحه مختلفة، آثار السجن ظهرت على بنيته وأكلت منها، لا يصدق أنه خرج من السجن وكأنه في حلم، احتضنته وحمدت الله أنه خرج من قلعة الظلم تلك المسماة أمن وقائي".. هي الأخرى عاشت الحلم ذاته مع ابنها وكأنه نال سراحه من سجون العدو بعد سنين طويلة، "ففي طريق عودتنا إلى قلقيلية تجولنا سريعًا بمركز المدينة وقراها".
رحلة شاقة
بهذا انتهت رحلة مؤمن التي بدأت في 24 فبراير/ شباط 2019 عندما اقتحمت قوات كبيرة من الأجهزة الأمنية منزله عقب عودته من الجامعة، وعبثت بمقتنياته وصادرت العديد منها بما في ذلك هاتف الخلوي وحاسوبه وأوراق طابو وجواز سفر لشقيقه محمد.
لم ينطفئ اشتياق مؤمن للقرى والأصدقاء، فلم ينَم سوى ساعة واحدة، حتى أشرقت عيناه قبل الشمس وغادر المنزل مبكرًا لشوارع حارته وقرى قلقيلية، ولزيارة أصدقائه التي حرمته معتقلات السلطة منهم.
وبصوت يملؤه القلق، تقول الأم: "طموحي الآن أن يعود ابني كليًّا إلى ما كان عليه قبل السجن، كان يمزح ويلعب ويتحدث مع الآخرين، لكن الآن بعد أكثر من عام في الاعتقال المنفرد يظل صامتًا لا يتحدث كثيرًا، ملامحه شاحبة".
طوال فترة اعتقال مؤمن كانت والدته هي جيشه في الخارج، تذكر الجميع كل يوم، بأن لها ابنًا معتقلًا.. في المناسبات والفعاليات لم يهدأ صوتها ولا حتى قلمها عبر مواقع التواصل الاجتماعي، فحظيت بتضامن من الرأي العام الفلسطيني.
وفي هذا السياق تضيف: "الكل كان يطلب مني الصمت، لكني رفضت لأن ابني داخل السجن وقضيته إنسانية واعتقل على تهم ملفقة، ساومني الوقائي على إغلاق الصفحات التي أنشأتها باسم (المعتقل مؤمن نزال) مقابل الإفراج عنه حتى أنني منعت من زيارته في 24 آب/ أغسطس الماضي ووجهت إلي تهديدات من الوقائي لكني لم أخشَها".
وبفعل الاعتقال السياسي حرمت السلطة انقطع "مؤمن" ثلاثة فصول دراسية، حيث يدرس الهندسة الكهربائية في جامعة فلسطين التقنية "خضوري" بمدينة طولكرم.
وخلال مدة اعتقاله، خاض الإضراب عن الطعام والماء ثماني مرات -شاركته والدته في إحداها- للمطالبة بإنهاء اعتقال بعدما أصدرت محكمة بداية رام الله ثلاثة قرارات بالإفراج عنه، دون أن يذعن الوقائي لسلطة القضاء.