إذا كان الشهداء قد رحلوا بأجسادهم عنا ودفنوا في باطن الأرض، ونالوا أعظم الدرجات وأنبل المناصب بشهادتهم، فإن الأسرى الذين غيبوا في السجون والمعتقلات، ونالوا أشد العذاب والحرمان ممن اغتصب أرضهم وسلب حريتهم، أضحوا في حياتنا كالنجوم الزاهرة التي لا تغيب عن حياتنا ليل نهار.
قضية الأسرى الفلسطينيين من أقوى وأرسخ دعائم مقومات القضية الفلسطينية، فهم الشعلة المتقدة في وجدان الشعب الفلسطيني كله في الوطن والشتات، والمصباح الذي ينير طريقهم ويعبد دربهم، فلهم منا جميعًا أسرى ومحررين كل التحية والتقدير، وللمعتقلين الذين ما زالوا يقبعون في زنازينهم أسمى معاني التضامن والصمود والأمل في نيل الحرية، والعودة إلى بيوتهم وأسرهم وإلى آبائهم وأبنائهم.
لم يكتف الاحتلال الصهيوني منذ سلبه الأراضي الفلسطينية بالقتل وسفك دم الشعب الفلسطيني الحر، بل فتح السجون والمعتقلات على اتساع الوطن كله، وأخذ يملؤها بالنساء والرجال والأطفال والشيوخ، فلا تكاد ترى بيتًا فلسطينيًّا إلا وقد تجرع أحد أبنائه أو أكثر مرارة الاعتقال والأسر، حتى تجاوز عدد الفلسطينيين الذين اعتقلوا منذ النكبة أكثر من مليون، منهم من اعتقل أكثر من مرة.
إن الأوضاع الصحية الاستثنائية التي يعيشها الأسرى المرضى الفلسطينيون سيئة جدًّا، ومعاناتهم بسبب سياسة الإهمال الطبي المتعمدة من سلطات سجون الاحتلال تتفاقم يومًا بعد آخر، وممارسة أساليب التعذيب الجسدي والنفسي الوحشي والممنهج لا تتوقف، وحرمان إدارة السجون إياهم الرعاية الطبية المطلوبة سياسة متعمدة، وممارسة طواقم الاعتقال والتحقيق القهر والإذلال والتعذيب أمرٌ اعتيادي ويومي، والمماطلة بتقديم العلاج المناسب لهم مما اعتاده الأسرى المرضى، فضلًا عن انتظارهم شهورًا عدةٍ قبل عرضهم على الطبيب المختص.
تتبع إدارة سجون الاحتلال الإسرائيلي بحق الأسرى والمعتقلين الفلسطينيين إجراءاتٍ لا إنسانية، تنفيذًا لقرارات حكومات اليمين المتطرف، وقوانين الكنيست الإسرائيلي العنصرية، ولن يكون آخرها قانون منع الإفراج عن أسرى فلسطينيين بعينهم، ومشروع قانون إعدام الأسرى الذين نفذوا عمليات ضد أهداف إسرائيلية، وهي كلها إجراءات وقوانين تهدف للنيل من إرادة الأسرى وإضعاف عزيمتهم، ولكن مساعي الاحتلال تبوء دومًا بالفشل، إذ ترتفع رؤوس الأسرى وتتشامخ قامتهم وتسمو روحهم المعنوية وتقوى.
تكشف الإحصائيات التي نشرتها مؤسساتٌ فلسطينية معنية بحقوق الأسرى أن الاحتلال لا يفرق بين السليم من الفلسطينيين والسقيم، أو بين الرجال والنساء والأطفال، إذ يقبع في سجون الاحتلال ما يزيد على 5000 أسيرٍ، يتوزعون على 23 سجنًا ومعتقلًا ومركز توقيف وتحقيق، ومنهم 300 أسير من قطاع غزة، و350 أسيرًا من القدس، و70 أسيرًا من أهلنا في الأراضي المحتلة عام 48، و4200 أسير من الضفة الغربية المحتلة، و22 أسيرًا من العرب، و21 أسيرًا يحملون الجنسية الأردنية، وواحد سوري، ومنهم 700 أسير مريض، ومنهم 23 أسيرًا مصابًا بالسرطان، ونحو 200 طفل من إجمالي أعداد المعتقلين.
هذا ولم يسلم الصحفيون الفلسطينيون من بطش العدو الصهيوني، فهناك 22 صحفيًّا فلسطينيًّا في سجونه، منهم 3 سيدات وفق بيان للجنة دعم الصحفيين، وقد صدرت أحكامٌ بالسجن الفعلي على نحو 7 صحفيين منهم، في حين اعتقل 4 صحفيين بلا محاكمة، ووقّف 11 إعلاميًّا وصحفيًّا إلى حين إصدار الحكم.
بالرغم مما يعانيه الأسرى من انتهاكاتٍ ما زالوا متمسكين بالأمل، ولديهم اليقين بالحرية والانتصار، فهم أصحاب ظاهرة سفراء الحرية، والنطف المهربة التي هي في حقيقة الأمر ابتكار جديد لصناعة الحياة من داخل زنازين الموت، ولا بد أن يأتي اليوم الذي سيكسرون فيه قيودهم، ويحطمون فيه أبواب زنازينهم، بعد نصر مبينٍ بإذن الله (عز وجل)، وينزعون الأغلال والسلاسل التي تكبلهم وتسلبهم حريتهم، وسيستنشقون اليوم أو غدًا الحرية بكل عز وفخرٍ وإباء، وسيعودون إلى بيوتهم وأهلهم وأطفالهم وآبائهم، ورؤوسهم مرفوعة، وكرامتهم موفورة، وحقهم كريمٌ حرٌّ مصانٌ.