طوال مسيرتي مع القراءة، لا أذكر أنني زهدتُ في قراءة كتاب موضوعه السجن، إذ ظلّ لهذه النوعية من الكتب مكانة أثيرة لديّ، رغم ما تتركه على صفحة النفس من ظلال قاتمة، وآثار مؤلمة.
لكنني اكتشفتُ خلال اعتقالي أنّ للقراءة في أدب السجون، وأنت نزيلُها، جمالية خاصة، والجمال هنا ليس مقترنًا بالبهجة، وما يمكن أن تدخله هذه القراءات على النفس من سرور، إنما بحساسية ذائقة المرء وهو داخل الأسر، وعمق فهمه للمعاني المتضمنة ما يكتب عن التجارب الاعتقالية المختلفة، حتى لو تنافر مكانها وزمانها عن مكان وزمان القارئ.
أذكر أنني رأيتُ في بدايات سجني إحدى الأسيرات الصغيرات منهمكة في قراءة رواية (يسمعون حسيسها) لأيمن العتوم، عن السجون السورية، قالت لي مرة إنها تشعر بعبء كبير خلال قراءتها، لكنها تصرّ على إكمالها لأنها من والدتها، قلت لها إنني أشفق عليك من مطالعة الفظائع في فصولها، لكن قراءتها –على الأقل- تتيح لنا إدراك مآسي غيرنا، واستصغار مأساتنا أمامها، وهذا فيه جانب من المواساة لنا هنا.
فيما بعد، وصَلتْ لإحدى الأسيرات رواية (طريق جهنم) لأيمن العتوم أيضًا، وكانت قد صدرتْ حديثًا، وموضوعها ليبيا؛ طاغيتها وسجونها، وتتوزع فصولها بين معمر القذافي وأحد ضحاياه، ويروي الأخير عذاباته في سجون الأول على مدى ثلاثين عامًا قضاها في الأسر.
وما كنتُ لأفوّت رواية بهذا الموضوع دون قراءة متأنيّة، والحقّ أنني استثقلتُ نفسيًّا قراءة الفصول التي يخاطب بها القذافي نفسه، وكنتُ أستعجل انقضاءها، أما الفصول التي تروي سيرة السجين فكنتُ أراها زاخرة بالبلاغة والحكمة والأفكار الفذة، فحين تخرج الحكمة على لسان من يشاركك في حالة مشابهة فإنها تستوقفك وتُنقش تلقائيًّا على جدار قلبك وعقلك.
استأذنتُ صاحبتها في أن أعلّق على بعض فقرات الرواية على الكتاب نفسه، ولعلّي نسيتُ الآن كل ما كنت أكتبه على هوامش الكتاب، لكنني أذكر ما كتبته بالقلم الرصاص قرب عبارة: "وهل الأحباب إلا وردة في القلب؟" حيث كتبْت: "يحييه عطرها أو يدميه شوكها"، ثم وجدتُ أنني كتبتُ عن الرواية في مذكراتي داخل السجن، وأحسستُ وأنا أقرأ تلك المذكرات الآن أنه كان في هذه الرواية إضاءات ملهمة، رسّخت قناعات لديّ، وخلّصتني من أخرى، وشابهَتْ أفكارًا كنت قد حدثتُ نفسي بها.
من تلك الإضاءات: "الفكرة العظيمة تستدعي الدم، لكن لا أحد يريد أن يموت، النجاح يتطلب الجرأة، لكن لا أحد يريد أن يكون شجاعًا"، "نحن ننال من الحرية بقدر ما نتخلص من الخوف الذي في قلوبنا، اقتل الخوف تنل حريتك"، "بعض المواقف العابرة في حياة الإنسان لا تعيشُ إلا لحظات لكنّ أثرها يبقى مع الإنسان إلى أن يموت"، "الموت في حد ذاته ليس صعبًا، الصعب مواجهته بثبات، أن تتقبله، أن تعرف أنه يسلك بك إلى الطريق التي بدأتها قبله، الطريق التي كنت مقتنعًا بها يومئذ".
وجاء في الرواية: "السجن منفى وموت وانكسار، لا تقل لي السجن للرجال، فالحرية للرجال، والنزال للرجال"، فكتبتُ حينها: "هو منفى دون شك، تتبدى غربته حين يوغل المرء في غيابه، وحين يطول به انتظار خبر ممن ودّعهم".
وجاء فيها: "كان الشعر في السجن للشاعر ولنا طوق نجاة"، وتذكرتُ احتفاءنا بديوانيْ المتنبي وأمل دنقل حين دخلا إلى السجن، إلى ذلك المكان الذي قلّ أن تصادف فيه نصًّا أخاذًا، يزيل الوجوم ويناوئ الاستسلام ويقاوم المرارة.
تفاعلي مع الرواية جعلني أخلص إلى فكرة أنّ ما يُكتب في السجن ليس مثل ما يُكتب خارجه، فمحنة السجن تمنح الحروفَ لونها، والكلمات عمقها، والتجارب صدقها، والحكمة هيبتها.
عندما انتهيتُ من الرواية تذكرتُ أن نهاية القذافي كانت بعد يومين من إنجاز صفقة (وفاء الأحرار) في أكتوبر عام 2011م، وهذا وحده كان كفيلًا بأن ينثر الندى في قلبي، ويزرع حوافه بأشتال الأمل، فتبدد ما علق فيه من آلام.
كان عليّ ليلتها أن أجهز امتحانًا لطالبات اللغة العربية في السجن، حيث سيقدمنه في اليوم التالي، وجدتني تلقائيًّا أعود إلى الرواية وأستخرج منها نصًّا كان يُحاكي حالنا حينها في السجن، وصدّرتُ الامتحان بذلك النصّ واستخلصت منه عدة أسئلة نحوية، أما النصّ فكان: "بعد سنتين من آلام السجن، وبعد لياليه الطويلة، صرنا جسدًا واحدًا، ذابتْ كلّ الفوارق بيننا وبين من يشبهنا أو يختلف عنّا، فبدأنا ننصهر في بوتقة واحدة، وحّدتنا المحنة، ورقّقت قلوبنا، وعظّمت الإنسانية الموجودة في أعماقنا، فصار وجعنا واحدًا، حزننا، فرحنا، انتصاراتنا الصغيرة، انهزاماتنا، كلّها كانت توزّع علينا بالتساوي، فإذا كان ما نوزّعه علينا مصيبةً فقد خفّفنا بذلك من أثرها، وإن كان ما نوزّعه علينا انتصارًا فقد عظّمنا قيمته، وجعلناه يكفي الجميع".
وأما حالنا المشابِه فكان شيوع التوافق بعد مرحلة من الشقاق والاختلاف، وظلّت الحكمة التي يكتنزها النصّ تحوم في فضائنا السجين، فنتذوق معًا طعم انتصاراتنا الصغيرة على السجان، ويتوزّع علينا عبء الهموم المشتركة فتخفّ وطأتها علينا فُرادى.
(طريق جهنم) عنوان لا يشي بأنك ستعيش مع الرواية لحظات قراءة شائقة، لكنني إذ قرأتُها في سجني، لمستُ في فصولها شحنات من النور، وكانت بعض عباراتها قناديل من الحكمة العميقة، ومجاديف من الإباء، تعين المرء على عبور لجة ظلمته، وعلى التمسك ببقايا الضياء في قلبه ووعيه.