تهتز قدماه وهو يقف أمام عربة مشروبات ساخنة؛ بحذر يغلي كأسًا من القهوة لأحد الزبائن، يتحرك ببطء يراقب حركته، حتى غلا البراد وسكب القهوة بكأس من الكرتون، أحكم الإمساك بها ثم أسند جسده إلى هيكل العربة خشية السقوط على الأرض وناولها للزبون بنجاح.
يتكرر هذا المشهد عشرات المرات يوميًّا مع الجريح مهند الأسود (31 عامًا)، بعد أن بترت ساقه اليمنى ولم يجد سوى العمل على بسطة وحتى هذا العمل المريح لغيره مرهق بالنسبة له، مع كل كأس يخشى السقوط على الأرض وسكب المشروبات الساخنة على الزبائن.
بعد أن غادر الزبائن، جلس على كرسي خشبي يتسع لثلاثة أشخاص ثم مد قدمه اليمنى المبتورة للأمام مرتخيًا على ظهر المقعد تظهر عليه علامات التعب، خلف عربته على أحد مفترقات مدينة غزة، كانت حركة السيارات والمارة كبيرة، وأصوات المحركات والأجراس لا تهدأ لثانية واحدة، ليفتح مهند جرحه الذي لم يشفَ بعدُ لصحيفة "فلسطين".
في 11 مايو/ أيار 2018، كان مهند على موعد مع حدث غير مسار حياته، عندما أطلق قناص تابع لجيش الاحتلال الإسرائيلي رصاصة متفجرة على قدمه اليمنى خلال مشاركته في مسيرة العودة السلمية التي انطلقت في 30 مارس/آذار 2018 تزامنًا مع الذكرى الـ42 لأحداث يوم الأرض.
وبينما هو على ذات الجلسة بملامح ما زالت مجروحة بذلك الحدث، يقول: "بعد الإصابة مكثت ستة أيام في غرف العناية المكثفة، ثم سافرت للأردن لاستكمال العلاج وهناك أمضيت 85 يومًا، حاول الأطباء مرارًا إنقاذ قدمي لكن الطبيب جاءني، وقال لي: الغرغرينا أكلت رجلك يا مهند حاولنا إنقاذها لكن فش أمل، بدنا نبتر رجلك لإنقاذ حياتك، لأن الرصاصة فجرت العظم كله والالتهابات زادت بشدة.
يضع يده على الطرف الصناعي، متبعًا ذلك بكلمات امتزجت بالقهر: "الرجل بتتعوضش صح بروح وبلعب كورة لكن أنا مش سعيد.. وهدا كله بتحمل مسؤوليته الاحتلال".
يكشف عن الطرف.. يطرقه بيده مرتين، قائلًا: "الطرف لا يساعدني على الحركة لأنه ثابت وغير لين من الأسفل، كما أن مقاسه واسع علي".
لكن لم يرفع الأسود راية الاستسلام أمام الظروف التي وضعه الاحتلال فيها، بل أعلن التحدي وكان التحدي الآخر هو من بوابة الرياضة تحديدًا في لعبته المفضلة كرة القدم، ولكن هذه المرة كانت مع ذوي البتر.
بوابة أخرى
نهض من مكانه ومشى بخطوات متثاقلة لعدة أمتار، يتحدث عن هذه التجربة في حياته، معترفًا: "أنا متعلق بلعبة كرة القدم قبل الإصابة، وبعد الإصابة انضممت لفرق ذوي البتر لهذه اللعبة، وشعرت بالمتعة باللعب مع رغم أن الأمور اختلفت كثيرًا علي".
يربط بين المرحلتين وبدت عليه الحسرة: "كانت في السابق لدي مهارة كبيرة، كما أن القدم التي كنت أضرب وأمرر الكرة بها هي القدم اليمنى المبتورة، فواجهت تحديًا في اللعب بالقدم اليسرى، لكني تدربت كثيرًا وبدأت إتقان المهارة بها (...) وعندما ظهرت موهبتي اخترت ضمن صفوف منتخب فلسطين لذوي البتر".
لا ينسى يوم اختياره ضمن صفوف منتخب فلسطين، يعود إلى ذلك اليوم، يسبق كلامه ضحكة فردت وجهه وأخرجته من حزنه: "بينما كنا نخوض مباراة في كرة القدم، أحرزت ثلاثة أهداف وبعد نهاية المباراة جاءني أحد الأشخاص وأخبرني باختياري".
زادت ابتسامته أكثر: "فرحت كثيرًا لأن الانضمام للمنتخب شيء كبير.. وهذا الشيء عوضني عن فقدان قدمي".
مهند ابن الثلاثين عامًا، لديه ستة أولاد (أربع بنات وولدان)، كان يعمل قبل الإصابة في البناء، لكن الإصابة فرضت عليه تغيير طبيعة العمل لما يناسبه، وألَّا يركن للاستسلام، فأنشأ هذه العربة بدعم من اللجنة الدولية للصليب الأحمر، لتمكينه من الانخراط في المجتمع وتحدي الإصابة.
"يوميًّا آتي إلى هنا الساعة السادسة صباحًا وأعمل في بيع القهوة حتى الساعة الثانية ظهرًا، ويأتي أحد إخوتي وأقاربي لمساعدتي في باقي الوقت، لكوني لا أستطيع الوقوف طويلًا على قدمي".. هذا أحد أشكال المعاناة والتحدي في حياة مهند، يوميًّا يرفع ويلبس الطرف أربع مرات، وبين "الفك والتركيب" عقبات ووقت يبذله في لف قدمه بالقماش وارتداء الطرف.
قبل أن يسدل الستار على حديثه، يضحك بعدما تذكر موقفًا مضحكًا ومؤلمًا في الوقت نفسه: "حينما عدت من السفر وكانت قدمي مبتورة، سألتني طفلتي ريتاج (سبعة أعوام): وين رجلك يا بابا؟ لم تفهم أنها مبتورة للأبد، كانت في بداية الأمر تبلل قطعة قماش وتأتي لتمسح بها الطرف المبتور كل يوم معتقدة أنها ستنبت من جديد كما تنبت الشجرة، حزنت يومها لكن مع مرور الوقت فهمت ريتاج أن الطرف الذي يذهب لا يعوض".