قائمة الموقع

مشعل: قيمة القادة تكبر بقدر احترامهم أدوار الآخرين

2020-03-12T20:08:00+02:00
خالد مشعل
ميدان

بعد قرابة عشرة أعوام من اندلاع ما يُعرف بـ"الربيع العربي" وما تلاه من اهتزازات سياسية واجتماعية حادّة، تغيّرت الكثير من المفاهيم و"الثوابت".

 فما بين إحباط، واتّقاد للوعي والحماسة، قفزت أفكار لواجهة المشهد، وانهارت رؤى وآمال.

 وفي القلب من هذه التبدلات، حضرت السياسة، والأيديولوجيا، ونقاشات محتدمة حول جدوى العمل الحزبي والفعل الثوري من أساسه، وغيرها مما يضج به الشارع العربي في رحلته الشاقة نحو التحرّر.

  

في هذا الحوار مع رئيس المكتب السياسي السابق لحركة المقاومة الإسلامية "حماس" خالد مشعل، حاوره موقع "ميدان" عن بعض مما يدور في خلَد الشباب العربي من هواجس وأسئلة وأفكار، في سعيٍ لاستنطاق بعض ما تزخر به تجربته الطويلة في العمل السياسي والنضالي.

 

سؤال: بعد "الربيع العربي" انتشرت ظاهرة الحراك الفردي المتجاوزة للحزبية، فهل يدل هذا الحال على فشل الأحزاب في إدارة الشارع وحركات التحرر؟

جواب: تعلمون أن واقعنا العربي والإسلامي صعب، ويُعاني في كثير من ساحاته من فشل تنموي واقتصادي، وعجز عن توفير أساسيات الحياة الكريمة، فضلا عن غياب الديمقراطية والمشاركة في القرار. العالم العربي والإسلامي تأخر كثيرا عن الركب للأسف، بينما هناك دول كانت نامية والآن أصبحت صاعدة ومتقدمة، وهذا كله خلق حالة من الغضب الشديد عند جماهير الأمة، خاصة لدى الشباب.   

الشباب لديهم دوافع متعددة؛ منها المبدئي والديني، ومنها الوطني والقومي، ومنها أنه الشريحة الأكثر اهتماما بالمستقبل. إنه يريد أخذ فرصته ودوره في صناعة حياته ومستقبله، فالأجيال التي سبقته أخذت فرصتها جزئيا أو كليا، أما هو فلا يقبل أن يفقد هذه الفرصة، وأن يُصادِر حقه فيها أحد.

هذه الظروف الصعبة والمعقدة تجعل حالة الغضب جامحة، والبحث عن الخيارات لنيل الحقوق متعددة، ولا يمكن حصرها في خيار أو مسار واحد. وهل من الصواب أن نضع أنفسنا في مجال المفاضلة بين العمل في إطار الأحزاب والتنظيمات أو في إطار المبادرات الشبابية والحراك الفردي العفوي؟

أنا لست مع هذه المقاربة. فوجود الأحزاب، بصرف النظر عن مدى نجاحها أو فشلها أو تعثرها، لا يُلغي الحراك الفردي والمبادرات الشبابية بأشكالها المختلفة، ووجود مبادرات شبابية ومشاريع فردية ناجحة لا يُقلِّل من أهمية وضرورة العمل المنظم في إطار القول والأحزاب والتنظيمات. حجم الخلل في بلادنا أكبر من أن يُحصر في مسار واحد. فليعمل الجميع. إن حجم التحدي والخلل والتطلعات الكبيرة عند شعوبنا في المنطقة تستوعب كل المبادرات، سواء كانت حزبية أم فردية، أو كانت من أصحاب الخبرة أو شبابية.

من ناحية أخرى، إن كثرة المبادرات الشبابية في عدد من العواصم والساحات العربية هي رسالة مهمة للتنظيمات والأحزاب أنها إن لم تتطور وتواكب تطلعات الأجيال الصاعدة، وتجدد في أفكارها ووسائلها وأُطرها التنظيمية، وتسمح بالحيوية والإبداع في عملها وإدارة قرارها، وتُشرك قطاعات الشباب في ذلك، وتصنع حالة ديمقراطية شورية حقيقية في داخلها، فإن الجماهير، وحتى كوادرها نفسها، ستعزف عنها.

هذه قاعدة في الحياة؛ عدم التطور يعني الجمود، والجمود يعني التقهقر إلى الوراء، ثم الموت. الحياة دون تطور لا قيمة لها، ومَن يتجاهل سُنّة التطور والتجدد، ويظل بأداء تقليدي رتيب، ويفقد حيويته وقدرته على الإبداع واستيعاب الأجيال المتعاقبة في العمل ومواقع القرار والقيادة، ولا يستوعب الشباب وحماسهم وأفكارهم الحيوية، فإنه لا شك سيتراجع، وتكثر أزماته، وتقل نجاحاته، وربما يندثر ويفقد دوره ومكانته، ويصبح مجرد عنوان من عناوين الماضي والتاريخ.

لكن علينا ألا نستعجل بالقول إن عصر التنظيمات والأحزاب قد انتهى، هذا ليس صحيحا. فالعمل السياسي، وتحقيق المشاريع الكبرى، وإدارة الصراعات في عالم اليوم، ما زالت تحتاج إلى العمل التنظيمي والحزبي الجماعي والمؤسسي، وخاصة في حال الشعوب التي تسعى لمواجهة العدوان والتحرر من الاحتلال. فالمقاومة بأشكالها المختلفة لا يمكن تركها للمبادرات الفردية والعفوية فحسب. لكن ذلك لا يعني احتكار التنظيمات والأحزاب للعمل السياسي والنضالي، بل آفاقه مفتوحة للأفراد والشخصيات والمبادرات والمجاميع الصغيرة والكبيرة. وعلى الجميع، أيًّا كان موقعه في ميادين وخيارات العمل هذه، أن يتعامل مع الآخرين بروح التكامل والتعاون والشراكة، لا بروح الندية والصراع، أو الاحتكار والإقصاء.

ولعل فلسطين نموذج واضح وناجح لتكامل الجهود بين الفصائل والقوى، والشخصيات، والمبادرات الفردية والشبابية. والتدقيق في الانتفاضات والهبّات وموجات المقاومة التي جرت في الماضي وما زالت تجري اليوم في فلسطين ضد المحتل الصهيوني يُشير بوضوح إلى أنها مُحصّلة عمل منظم ودؤوب، تقف خلفه فصائل ومنظمات وخلايا وتشكيلات متعددة، وفي الوقت ذاته هي زاخرة بالمبادرات والبطولات الفردية، والاجتهادات الشبابية.

 

سؤال: يمكن أن نَعُدّ ما سبق تنظيرا مجرّدا من انعكاسات على الواقع. على مستوى حركة حماس، كيف يمكن أن نلمس هذا التطور؟

جواب: حماس في أصلها ثمرة لروح التغيير والتجديد في الحركة الإسلامية الفلسطينية، وفي إطار تطور النضال الوطني الفلسطيني، وهي ما زالت حريصة على تجديد نفسها. وهذا لا يعني أنها لا تقع في أخطاء، ولا يصيبها ما يصيب أي حركة أو تنظيم، ولكنها كانت وما زالت حريصة على نهج التطور والتجديد والحيوية والإبداع. كما أن حماس تستوعب في أُطرها وميادين عملها الأجيال المتعاقبة بمختلف فئاتها وأعمارها.

إن أردتم معرفة مدى تجدُّد وحيوية أي حزب أو حركة فانظروا إلى جيل الشباب ومدى تعاقب الأجيال فيها. هناك بعض التنظيمات في الساحة الفلسطينية والعربية الإسلامية عبارة عن طبقة من القيادات التاريخية، بينما جيل الشباب إما غائب أو محدود أو مُهمّش.

 

سؤال: في مرحلة ما بعد الربيع العربي، انهارت رمزية الكثير من القيادات، مما جعل الكثير من الشباب "يكفرون"، إن صح التعبير، بفكرة القائد والرمز. هل تتفق مع هذا التوصيف وكيف تنظر له؟

جواب: في هذه المسألة بُعدان؛ الأول، أهمية القادة والرموز في حياة الأمم والشعوب، خاصة الرموز القيادية الكبيرة والملهمة والكاريزمية، مثل الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام، والمجددين والمصلحين وصُنّاع التاريخ والتحولات الكبرى في حياة الأمم. وما زالت الشعوب في عالمنا العربي والإسلامي تعيش على إلهام تلك القامات والقيادات وتأثيرها العابر لحدود الجغرافيا والمراحل التاريخية. وكذلك الحال عند الشعوب الأخرى، فلا غنى عن الرموز والقيادات ودورها في الحشد والتوجيه، ورسم الرؤى والأفكار، وقيادة الجماهير نحو الأهداف الكبيرة.

لكن ذلك لا يعني اختزال الشعوب في قياداتها وزعمائها، وتهميش أدوار الآخرين من الكوادر والعاملين والقيادات الوسطى، أو تحويل الشعوب والجماهير إلى مجرد أتباع وصدى للزعماء. فنهضة الأمم تتحقق بالمجموع كله من القادة والجنود والعاملين والجماهير، ومَن يعملون في العلن والخفاء على حدٍّ سواء.

وقيمة القادة والزعماء الكبار تكبر وتعظم بقدر ما يحترمون أدوار الآخرين، ويشجعونهم على المبادرة، ويتقبلون اجتهاداتهم وإسهاماتهم حتى لو رافقتها أخطاء. فالرسول -صلى الله عليه وسلم- وهو إمام المرسلين، المسدّد بالوحي، والذي تحققت فيه الكمالات الإنسانية بأعلى درجاتها، كثرت حوله الرمزيات والقيادات الكبيرة، وكان يعطي الحرية والفسحة للمبادرات ويشجع عليها في مختلف المجالات، كقصة الحباب بن المنذر في اختيار موقع معركة بدر، وسلمان الفارسي في حفر الخندق، رضي الله عنهما، وغير ذلك من الأمثلة. القائد الحقيقي هو الذي يعمل مع الأقوياء، ويصنع حوله قادة لا مجرد أتباع، ويحفظ حق الآخرين في المبادرة والإبداع، والنقد وإبداء الرأي، ويشجعهم على ذلك.   

أما البُعد الثاني في هذه المسألة هو أنه قد نشأت وبرزت في السنوات الماضية رموز دينية وفكرية وسياسية كانت ملء السمع والبصر، وذات تأثير كبير على الجماهير، خاصة الشباب. لكن حين تعرضت للاختبار والضغوط والإغراءات، وفي لحظة الحقيقة، اهتز بعض أولئك الرموز وسقطوا في الاختبار، والله -سبحانه وتعالى- تحدّث عن هذه الحقيقة: "مَّا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَىٰ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىٰ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ".  

لا شك أن هذا شكَّل صدمة مؤلمة لدى عامة الناس، خاصة الشباب، وتركت تأثيراتها السلبية في نفوسهم، وربما مسّت عند قطاعات منهم الإيمان والقناعة بالأفكار نفسها، وهنا مكمن الخطورة. وهذا درس كبير ألا نتعلق بالرمزيات تعلُّقا مطلقا، وألا يكونوا هم الحَكم على الأفكار والمبادئ، بل هي الحاكمة على الأشخاص مهما عَلَا شأنهم، وكل إنسان يُؤخذ منه ويُرَد، إلا الأنبياء والمرسلون المعصومون والمسدّدون بالوحي من الله تعالى.

من جانب آخر، مقابل فشل بعض الرموز والقيادات وسقوطها، هناك رموز وقيادات نجحوا في الاختبار وصمدوا، ودفعوا ثمنا كبيرا في سبيل ذلك، استشهادا أو سجنا أو تشردا أو تضييقا، وما زالت بفضل الله موضع الثقة والقدوة والإعجاب. الخير ما زال موجودا، والرموز الجديرة بالاقتداء ما زالت وستظل موجودة، وقائمة بالحق، بإذن الله. ولا غنى عن الرموز والقيادات في شعوبنا وأمتنا، فهي منارات هداية، ومصدر مهم للتوجيه والتحفيز والإلهام، وقيادة الجماهير إلى الأمام، ولا يخلو جيل أو عصر من هؤلاء. والله سبحانه وتعالى يقول في كتابه الكريم: "وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون". ومن الشعر المعبر عن هذا المعنى:

إن الذي خلق الحقيقة علقمًا … لم يُخلِ من أهل الحقيقة جيلا

    

أنا أتفهّم حجم الصدمة وتداعياتها في ردات الفعل الحادة عند الشباب وعامة الناس، لكنها محطة من الضروري سرعة تجاوزها. ومن هنا كان الصبر عند الصدمة الأولى مهما، كما قال عليه الصلاة والسلام: "إنما الصبر عند الصدمة الأولى". ونصيحتي للشباب أن يستعيدوا التوازن سريعا، وينظروا بعقولهم أكثر من عواطفهم إلى ما جرى ويجري، ويأخذوا من ذلك العِبرة، ويُعزِّزوا الثقة بأنفسهم وبالمبادئ والقيم التي يؤمنون بها، ويواصلوا المسيرة، فهم رموز المستقبل وقادته، وأن يحرصوا على تجنُّب الثغرات والعثرات التي وقع فيها غيرهم. 

حتى تكون رمزا وقائدا ولك بصمتك الخاصة في مسيرة الحياة والتغيير والارتقاء، عليك أن تُعنى بنفسك و"تتعب" عليها، حتى تبني شخصية قوية متكاملة من مختلف الزوايا الفكرية والروحية والنفسية والجسدية، مع أخذ نفسك بالمبادئ والقيم ومعالي الأمور، والكثير من الإخلاص والتجرد، وحسن الصلة بالله والاستعانة به والتوكل عليه سبحانه. وتتعلم كذلك كيف تبادر وتخوض التجارب والمغامرات بعناية وشجاعة، دون أن تخشى من الفشل أو الخطأ. فالخبرة والنجاح الحقيقي يمر عبر كل ذلك، والإنسان يتعلم من فشله كما يتعلم من نجاحه أو ربما أكثر. ولعلّي أرى أن بعض الرمزيات التي فشلت ربما غرّها البريق فاستعجلت، والتثبيت من الله -سبحانه وتعالى-. ومع ذلك لا نحب لأحد أن يسقط ويتردى.

   

سؤال: في خضم ثورات الربيع العربي، ثارت حماسة الشباب باعتبارهم قادرين على تغيير الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي المحيط بهم، وكان هناك شعلة متّقدة للتغيير، لكن الارتدادات التي تلت الثورات أدّت إلى ارتدادات على مستوى الفاعلية السياسية والاجتماعية للشباب، وتعزّزت فكرة الخلاص الفردي، كما أن هناك خطابا بات منتشرا على نطاق واسع من الشباب وهو "الكفر بالعمل العام"، كما صاحبه خفوت في بريق الانضمام إلى الأحزاب أو الحركات الاجتماعية. فكيف تنظر لهذه الظاهرة؟

جواب: أولا؛ دعونا نرى ما الذي حصل في الربيع العربي، ولماذا حصل التراجع والانكفاء؟ هناك عوامل كثيرة، من أهمها؛ أن التغيير طال كيانات وأنظمة وقيادات وأحزابا كانت هي عنوان المرحلة السابقة، وقاومت أي تغيير بشراسة، لأنها تراه يأخذ منها الدور وما كانت تستأثر به من مصالح ومنافع وامتيازات. فأنت حين تخوض معركة تغيير هناك بالتأكيد طرف بل أطراف ستقاومك وتحاول منع التغيير.

ربما حصل في لحظة ما -مع التغيير السريع في البدايات- أن كان هناك سوء تقدير للموقف. فهناك واقع متجذر منذ عقود طويلة في كثير من بلادنا، وتشابكت معه تحالفات ومصالح بل ومصائر. ولعل النجاحات السريعة الأولى أغرت الشباب بمزيد من الاندفاع، وعدم التقدير الدقيق لحقيقة الأوضاع القائمة، وتجذُّر الدولة العميقة فيها، ومدى قدرتها على مقاومة التغيير.

العامل الثاني؛ القوى الإقليمية التي لم يَرُقْ لها ذلك التغيير. فبعض هذه القوى لديها مشكلة مع الإسلام السياسي ومع الديمقراطية والربيع العربي. فرغم أنك تخوض معركة سياسية سلمية في بلدك فإن هناك دولا إقليمية لا يعجبها ذلك، وتريد أن توقف عدوى التغيير حتى لا تصيبها، وبالتالي فهذه القوى تقف خصما آخر مضافا إلى خصمك الموجود في ساحتك الوطنية، تسنده وتخوض معه معركة شرسة لمنع التغيير، أو الانقلاب عليه إن حصل.

العامل الثالث هو القوى الدولية الكبرى التي ينظر كثير منها إلى العالم العربي والإسلامي نظرة سلبية عدائية، وتسعى أن يظل ضعيفا ومتخلفا، ومستنزفا بالصراعات والانقسامات الداخلية، لأنهم يخشون أن هذا العالم العربي والإسلامي إذا وضع نفسه على مسار التنمية والتقدم والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والنهوض الحضاري فلن يظل ساحة هيمنة ونفوذ لهم، وسيكون له شأن كبير ودور مؤثر على الساحة الإقليمية والدولية. بعض القوى الكبرى إن كانت قد تماهت في فترة من الفترات مع التحولات الديمقراطية فإنها اضطرت لذلك بحكم أن التغيير حينها كان أمرا واقعا، ثم في أقرب لحظة غيّرت موقفها وتراجعت عن دعواتها لنشر الديمقراطية في المنطقة.

العامل الرابع؛ الكيان الصهيوني، الذي هو عامل مشترك في تأجيج الصراعات في المنطقة، وإغراقها في نزيف الدماء والانقسامات والتفتيت وإثارة النعرات، والعمل على عدم السماح لأي تجربة ربيع عربي أن تنجح أو تتواصل، فهذا جزء من الإستراتيجية الصهيونية في المنطقة وضد أمتنا.

العامل الأخير؛ قلة الخبرة والتجربة لدى قوى التغيير بصورة عامة، من حيث إدراك متطلبات التغيير والتداعيات المترتبة عليه، وتعقيدات الوضع الإقليمي والدولي، وأهمية التدرج في إدارة المراحل الانتقالية، وعدم التعجل في تقديم النموذج الذي نريد، وعدم الانفراد به، أو الاكتفاء بعدد محدود من الشركاء، بل ضرورة الحرص والصبر على صناعة شراكة وطنية مع مختلف القوى والمكونات.

أرجو من جيل الشباب في العالم العربي والإسلامي أن يستوعبوا هذه الحقائق، وأن يأخذوا العِبرة مما جرى، ويدركوا أن الأمور أكثر تعقيدا مما نظن. فحين تتعامل مع واقع متكلس لعقود طويلة، وله تعقيداته الداخلية وتشابكاته الإقليمية والدولية، عليك أن تُدرك أن التغيير لا يكون سريعا "بكبسة زر"، ولا بمجرد أنك الأكثر قوة وحضورا في الشارع، أو الأكثر تمثيلا في البرلمان، فالمراحل الانتقالية والتحولات الكبرى في مسيرة الشعوب والأمم تحتاج -مع القدرة والإمكانات- إلى كثير من الوعي والحكمة، وحسن التدبير، وإحكام إدارة القرار، واستصحاب الروح والمسؤولية الوطنية في التعامل مع شؤون الوطن والمواطنين.  

أتفهّم ردات فعل الشباب الحادة على إثر ما جرى، خاصة في لحظات الصدمة الأولى، لكن البقاء في هذه الحالة لا يحل المشكلة، ولا يخدم مصلحة الأمة ولا مستقبل الشباب. يلزمنا جميعا وقفة للتأمل، والمراجعة، وأخذ العِبَر، ثم تعزيز الثقة بالنفس، واستعادة زمام المبادرة على بصيرة ورؤية أكثر واقعية وإدراكا للواقع والمرحلة ومتطلّباتهما. وهنا تأتي مسؤولية القادة والمفكرين والمربين، أن يتعاملوا مع الشباب بجدية أكبر، ويحترموا أفكارهم ومبادراتهم، ويستوعبوا نقدهم وغضبهم.

وهنا أقول للشباب إنه لا يصح التعجُّل بالقول إن الانتماء للجماعات والتنظيمات بات بلا جدوى، كما لا يحق للمنتمين للتنظيمات حصر خيارات العمل فيها، والتقليل من شأن الأعمال والمبادرات الفردية والشبابية. على الجميع ألا يُضيِّق واسعا، وألا يتعجّل في إطلاق الأحكام والتعميمات، جرّاء فشل تجربة جماعية هنا أو فردية هناك، والخروج بنظريات أو مُسلّمات قاطعة، فالحياة أوسع من ذلك، وأكثر تقبُّلا لتعدُّد الأنماط والخيارات والاجتهادات.

على مستوى فلسطين، هناك تنظيمات ذات دور محوري ومؤثر، وهناك أيضا شخصيات وطنية ذات وزن واحترام كبيرين، كما توجد الكثير من المبادرات والأعمال الفردية الرائعة. رسالتي للشباب؛ إن كنت ترتاح للعمل الفردي فهنيئا لك، لكن لا تقل لغيرك إن الانتماء للتنظيمات أصبح بلا جدوى ولا قيمة. التماسك النفسي والفكري مسألة مهمة في التعامل مع الأحداث والصدمات وتقلبات الحياة، وذلك جزء مهم من بناء الشخصية لدى الشباب، وصقلها بالتجربة مدا وجزرا. ورُبَّ تجربة مريرة، وبعض حالات التعثر والفشل، كانت سببا بعد ذلك في نجاح كبير.

 

سؤال: ما أهمية الوعي السياسي في الوقت الحالي؟ خصوصا أنه بات ينظر للسياسيين، ويمكن ملاحظة ذلك في النقاشات اليومية، باعتبارهم مرتزقة، وأن السياسة مساحة فاسدة. فما ردك؟

جواب: الوعي السياسي مهم في الحياة بصورة عامة، فضلا عن أهميته وضرورته لمن يعمل في السياسة وفي الشأن العام. لكن لنُفرِّق بين الحرفية السياسية كالعمل في حكومة أو سلطة أو حزب، والوعي السياسي بعيدا عن الاحتراف كجزء مهم من بناء الشخصية الفاعلة. بل إن كل أشكال الوعي الأخرى ضرورية، كالوعي الاجتماعي، والوعي بالناس ومعادنهم ومشاربهم، والوعي بدروب الحياة وصراعاتها ومنافساتها، إلخ.

ينشأ الوعي السياسي وينضج من عدة عوامل؛ أولا؛ أن تتوفر عندك الرغبة ثم القرار. ثانيا؛ القراءة والثقافة والمتابعة، ومواكبة التطورات، وتحليل الوقائع، لا أن تقرأها فقط كما هي، وهكذا ينمو الوعي والفهم والقراءة الدقيقة للأحداث. ثالثا؛ العقل النقدي، ولا أقصد العقل الرافض لكل شيء، فهذه عدمية، وإنما العقل النقدي الذي يُساعد على الوعي السياسي والوعي بالحياة عموما، وتجنّب أن تكون ضحية الخداع والتضليل. اسمع وافحص واسبر غور الأشياء والأحداث، واعرض الأفكار والأطروحات والأحداث على المعايير الموضوعية ولا تتلقّفها كما هي.

رابعا؛ إن لم تكن سياسيا محترفا فاقترب من تخوم السياسة على الأقل. إن كان هناك ندوة سياسية مثلا احضرها، أو كان لديك أصدقاء سياسيون حاورهم وتفاعل معهم. فالشباب إن لم يكن لديهم هذا الوعي السياسي سيُستغفلون، وربما يُجَرّون إلى معارك خاطئة، وهي نقطة الضعف التي تلعب عليها وتستغلّها في الشباب بعض تنظيمات العنف والإرهاب.

أما موضوع الارتزاق فهو للأسف موجود في مختلف ميادين الحياة عند ضعفاء النفوس، سواء كان ذلك في عالم السياسة، أم الاقتصاد، أم النضال، وغير ذلك من المجالات. لكن ذلك لا يُقلِّل من أهمية هذه الأعمال وضرورتها في الحياة، ولا يُلغي كذلك النماذج المُشرّفة في تلك الميادين، التي تعمل بإخلاص وتجرد ومصداقية وتضحية وروح وطنية عالية.

 

سؤال: أخيرا، في عصر "منصات التواصل الاجتماعي" أصبحت صناعة الرموز سهلة وبسيطة، وقد تحدث مصادفة، إذ يمكنك ببساطة الحديث في المواضيع الشائعة، حتى الترفيهية منها، لتنال الإعجابات والمشاركات، وتصبح رمزا مؤثرا في توجهات وقرارات الجمهور، فكيف تُحلِّل هذه الظاهرة وما رأيك بها؟

جواب: المشاركة الفاعلة في وسائل التواصل الاجتماعي في هذا العصر باتت ضرورة، ومفيدة ومؤثرة إلى حدٍّ بعيد. لكن ذلك بحاجة إلى كثير من الانتباه، والتوازن، وعدم المبالغة في النظر إلى الذات أو إلى الآخرين، لمجرد أنهم أصبحوا رموزا مشهورين. فمن السلبيات المصاحبة لعالم منصات التواصل الاجتماعي أن يستسهل الشباب الصعود السريع للشهرة والنجومية، دون استيفاء شروط البناء والتأسيس للقادة الحقيقيين والرموز المؤثرين.

وكذلك أن تطغى القشور والشكليات واستعجال النتائج على المفاهيم الصحيحة المرتبطة بالثقافة، والقراءة، والمعرفة، ومتانة المحتوى، والفكر المؤصل، والوعي العميق، والصعود بأقدام راسخة نحو مواقع القيادة والرمزية والتأثير الدائم، وليس الطارئ أو الموسمي. ومن هنا، نصيحتي للشباب وهم يتفاعلون مع منصات التواصل الاجتماعي ألّا يتعجّلوا، وألا يكتفوا بالنتائج السريعة، وألا يجعلوا النجومية هدفا يركضون إليه، بل أن ينظروا إليها كنتيجة وثمرة طبيعية لمسيرة طويلة من حُسْن البناء والإعداد والمثابرة والجدية والعمل الدؤوب.

مَنْ يُردْ الوثب العالي أو القفز بالزانة يضرب بقدميه بقوة على الأرض الصلبة، أما إن كانت الأرضية التي تستند إليها ضعيفة أو رخوة فلن تتمكّن حينها من الصعود عاليا. التأسيس المتين والمتكامل مسألة مهمة في بناء الشخصية، خاصة لدى جيل الشباب الصاعد والواعد، وكما يقولون: "النهايات المشرقة تحتاج إلى بدايات محرقة"، أي إلى جهد وتعب مضنييْن. وقول الشاعر:

ومن يتهيّب صعود الجبال … يعش أبد الدهر بين الحفر

 

وهذه خلاصة للشباب في مجال التأسيس وبناء الشخصية:

بناء العقل أولا، بالقراءة والثقافة والفكر والحوار. وبناء الروح والقلب ثانيا، بالإيمان والطاعة والعمل الصالح وحسن العلاقة بالله -سبحانه وتعالى-. وبناء النفس ثالثا، بالقيم وفضائل الأخلاق وأمهاتها، كالكرم والشجاعة والصدق، وحسن العلاقة مع الناس، والحرص على امتلاك نفسية صلبة قادرة على الصمود أمام تحديات الحياة. ورابعا، بناء الجسم القوي المتعافي القادر على النهوض بمسؤوليات الحياة والمشاريع والأهداف الكبرى. خامسا، التدريب واكتساب المهارات بمختلف أنواعها. سادسا وأخيرا، النزول إلى الميدان، وخوض التجارب، خاصة الصعبة منها، بكل جرأة دون الخوف من الفشل أو التعثر، والتعلم في ميدان الحياة كما تعلمنا في محراب العلم، فذلك هو الذي يصقل الشخصية ويمنحها الخبرة والمعرفة الحقيقية، ويُزيّنها بالكثير من التجارب والمعارف التي هي خلاصة حياة الناجحين.

اخبار ذات صلة