في تلك الليلة انهزمَ "سلطان النوم" عُقيب نزالٍ شرس مع القلق.. أحمد، الذي بقي أربع سنوات ينجح في عامٍ دراسي ويفشل في آخر، يترقب إطلالة الصباح كي يخضع لأولى جولات امتحانات القبول بمعهد السينما العالي؛ بعدما قرر عدم استكمال دراسة الحقوق في جامعة القاهرة.
مرت ساعات كأنها دهر بأكمله حتى حان الموعد المنتظر _التاسعة صباحًا_, نهضَ الطالب المُستنكف عن الحقوق من فراشه وسريعًا جهّز نفسه وتأنّق بأرقى ملابسه، وقبيل خروجه طلب دعوات التوفيق من أمّه.
قرب قاعة المقابلة كان جموع الطلبة يتسامرون بأصوات متوجسة: "بقولوا الأستاذ توفيق هيبقى رئيس اللجنة.. خلاص ما لنا نصيب ندخل الكلية السنة دي"، أما أحمد فحدث نفسه قائلًا: "ده راجل 100% لا تنفع لديه واسطة المحبين ولا شفاعة المقربين.. ربنا ييسر ويستر كمان".
دقائق ودخل "سندباد" السينما العربية المخرج توفيق صالح إلى القاعة مُرحبًا بالحضور: "أهلًا بيكم بالمعهد وأتمنى التوفيق للجميع.. وخلونا نتعرف على البعض من خلال الأسئلة دي "إنت عايز تخش السينما ليه؟ وإيه علاقتك بالسينما أو تعرف إيه عنها؟".
مقدمة صالح وأسئلته الاستفتاحية تكفلت بجعل الصمت يسيطر على أرجاء القاعة المرصوصة بالطلبة، ولكنه سرعان ما تلاشى عندما أشار "سندباد" على طالب حاول الاختباء والتواري عن الأنظار طالبًا منه الإجابة عما سبق، وكان أحمد.
-"أحب السينما بل أعشقها, وكل يوم خميس أذهب للسينما, ولدي ميول فنية وأسعى لـ...". أجاب أحمد عن السؤال الأول بكلام إنشائي أوقفه صالح بطرح سؤال جديد.
-"طب بتحب مين من المخرجين؟ هاه!".
-"أحب صلاح أبو سيف وعاطف الطيب".
- "طب إيه الفرق بينهم هما الاتنين؟.. أيوا قول يا أحمد".
انتظر صالح برهة إجابة الطالب المستجد ولكنها لم تأتِ، فأمره بالجلوس, فجلس كالمغشي عليه ليومين لا يتفاعل مع نقاشات المقابلة التي تستمر لـ15 يومًا، قبل أن تعلن لاحقًا النتائج بقبول أحمد لدراسة السينما بكلية الفنون مع ثمانية طلبة! ولكن كيف حصل ذلك، ومن هو أحمد؟.. التفاصيل تُتبع في سياق الحوار التالي مع بطل الحادثة التي مضى عليها قرابة ثلاثة عقود.
بائع اللبن
هو المخرج السينمائي أحمد محفوظ نوح، الذي تولى عام 2008 إدارة أكبر مؤسسة عربية مهتمة بصناعة الأفلام وأعمال السينما "قناة الجزيرة الوثائقية"، وهو ذاته الرجل الذي طار فرحًا عندما تقاضى قبل 25 عامًا 20 جنيهًا مصريًا لا غير إزاء عمله لأول مرة في السينما مقابل دور "كومبارس متكلم", ولولا حاجته الشديدة لذلك المبلغ الزهيد في ذلك الوقت؛ لكن ما زال محتفظًا به حتى وقت إجراء هذا اللقاء الهاتفي معه من حيث يقطن هناك في العاصمة القطرية الدوحة.
ترعرعَ نوح المولود منتصف عام 1970 وسط عائلة مصرية متوسطة الحال لم يربطها علاقة وطيدة بالفن، إلا أن ذلك لم يمنع من انتقال عدوى "السينما" لطفلها أحمد لأسبابٍ ذاتية تكفلت المدرسة بتنميتها وصقلها تدريجيًا وأخرى جغرافية مرتبطة بانتقال قامة فنية مصرية كبيرة للعيش بجوار منزل ضيفنا في حي الزهراء بالعاصمة القاهرة.
وعن الإرهاصات الفنية الأولى يفتتح حديثه العذب: "من المؤكد أن الإنسان لا يكتشف ذاته دفعة واحدة، إنما يرتبط الأمر بتراكمات مترابطة، إذ بدأت الحكاية بحبي للغناء والموسيقى خلال السنوات الأولى, ثم أصبحت أشارك بفرق التمثيل المدرسي كهوية، إلى أن تعرفت على الأستاذ محمد النجار الذي يعد من أشهر مساعدي الإخراج في السينما المصرية".
"وما علاقة النجار بموهبتك؟", أجاب: "عندما كنت في الصف الرابع جاء ليسكن بالقرب من منزلنا المخرج النجار، فذهبت برفقة أحد الجيران للتسليم عليه, وحينها كان يبحث عن أطفال في سني كي يكونوا جزءًا من مشروع تخرج في معهد السينما، وبناء على ذلك العرض استأذنت والدي وذهبت بالفعل، لتكون هذه المحطة نقطة بداية علاقتي مع محمد الذي ما زلت حتى اليوم أناديه "أبيه" أي الأخ الأكبر".
تطورت سريعًا علاقة ضيفنا بجارهم الجديد، فبعدما شاهد نوح كواليس عالم التمثيل وآليات التصوير والإخراج لأول مرة في حياته، بات يتردد على منزل النجار كثيرًا، إما ليسأله عن الفن والسينما أو يراقبه أثناء تعامله مع السيناريوهات، حتى بادره الأخ الأكبر ذات يوم بسؤالٍ _كان له ما بعده_ حول طموحاته في الحياة، فأجابه ضيفنا: "هسجل إن شاء الله بمعهد التمثيل".
رغم تلك الإجابة والدلالات الفنية التي حامت حول نوح مبكرًا كحصد مراكز متقدمة بمسابقات التمثيل المسرحي على مستوى المنطقة التعليمية وإتقانه لسنوات طويلة لدور بائع اللبن حتى بات يعرف بـ"أحمد اللبان" بين أصدقائه وفي الحي، فضلًا عن إشادة المختصين بقدرته الدفينة، إلا أن ضيفنا عكسَ دفة هواياته الأولى وتوجه إلى دراسة الحقوق بعد إنهائه الثانوية العامة.
قاطعت حديث "بائع اللبن" لأسأله متعجبًا عن سبب دراسته الحقوق, ليأتي جوابه بعد صمت ليس بطويل: "في الحقيقة كانت حالة من "الغبش" تسيطر علي، فأنا عدلت عن دراسة التصوير السينمائي؛ لأنها تتطلب مهارات في الفيزياء والكيمياء, وذلك يتعارض مع ميولي الأدبية، وكذلك لم أستطع إقناع العائلة بفكرة الانضمام إلى المعهد، فعرض علي التسجيل بالجامعة فسجلت دون رغبة مني بتخصص الحقوق".
راهب السينما
أمضى مدير الجزيرة الوثائقية أربع سنوات عجاف في كلية القانون ينجح في واحدة ويفشل في الأخرى، وعلى ذلك يعلق: "لم أرَ نفسي إطلاقًا في سلك المحاماة أو القضاء، حتى قررتُ ترك الدراسة الجامعية والتسجيل في معهد السينما بعدما أخبرت والدتي رحمها الله بالأمر، وكذلك استشرتُ المخرج النجار الذي أشار علي ببعض القراءات والكتابات، ولم يبخل قط بالمعلومات التي تجعلني متماسكًا في امتحانات القبول العملية والنظرية".
كانت امتحانات القبول في المعهد العالي للسينما عام 1990 محطة مفصلية في حياة الشاب المولع بالسينما، إذ خرج بعد أربع سنواتٍ دراسية بخلاصة غنية تتمثل في "أن الصورة رأي والفن موقف والعمل الفني أمانة"، والفضل في ذلك يرجع إلى الفنان الراحل توفيق صالح، الذي وصفه بـ"الكنز" الذي وضعه الله في طريقه وما مفتاحه إلا الأسئلة، فالعلم كنز مفتاحه السؤال.
ويبرهن الرجل على عظم الكنز الذي رزق به في مطلع مشواره، قائلًا: "كانت تصوراتي عن الفن قبل أن أنضم للمعهد هي ذاتها التي أكدها لي وكأني وجدتُ الدليل والموجه؛ وذلك عندما رأيته هو الآخر يؤمن بأن الفن رسالة وأن الفنان مؤتمن على أفكاره وعلى المجتمع الذي يحيا فيه"، مضيفًا: "الراحل توفيق صالح كان مدرسة في تحويل الأفكار إلى لغة سينمائية حيّة وأسئلته كالسوط الغرض منها الوصول إلى الحقيقة لا استعراض العضلات".
ويستذكر نوح أولى الأسئلة التي وجهت له بالمقابلة وكيف عجز عن الإجابة عن سؤال التفريق بين أعمال أبو سيف والطيب، حتى شعر في قرارة نفسه أنه لا يتناسب مع معهد السينما وعليه العودة إلى دراسة الحقوق، ولكن كيف تجاوز نوح تلك المحطة الفصلية؟
عن مسألة التجاوز تلك؛ يقول: "بعد ذلك الموقف عرضت لجنة المقابلة سؤالًا تحليليًا لإحدى اللقطات، فرفعت يدي وأجبت ببراعة، ما جعل الأستاذ صالح يعيد النظرة مرة أخرى في شأني, ومن تلك اللحظة بدأت رحلة الأستاذية معه، حيث كنت أنتظره عند سيارته حتى يصحبني معه في طريقه لتكون العشر دقائق تلك بمثابة درس مكثف من رحم تجاربه، استثمرتها لأطرح أسئلتي التي تشغل بالي كطالب سينما، فكلما احتكّ الطالب بالأستاذ كانت الاستفادة من المعلومة والخبرة".
وحتى يستطيع نوح تعويض ما فاته بأربع سنوات قضاها في كلية الحقوق بين فشل ونجاح، راح يلتهم السينما التهامًا على مدار 24 ساعة ما بين حضور محاضرات والمشاركة في عروض ونقاشات فنية وقراءة أمهات الكتب والسفر هنا وهناك للتزود بالمعرفة، حتى بات يعرف بـ"راهب السينما" إلى أن تخرج من المعهد الوطني عام 1995 بمعدل جيد جدًا.
ما قيمة الإمكانات دون محتوى؟
وحول الإنجازات الأولى ما بعد التخرج استطرد في حديثه: "عملتُ في مستهل الطريق كمساعدٍ مخرج في مسلسل "الفدان الأخير"، ثم سجلتُ لنيل درجة الماجستير ولكني لم أستطع إكمالها بسبب التجنيد الإجباري بالجيش، وفي ذات الفترة عملت كمخرج ومخرج مساعد مع العديد من شركات الإنتاج الدعائية والسينمائية المصرية والأجنبية، ومارستُ جميع أنواع الإنتاج السمعي البصري".
وضرب الإعلامي المصري في أواخر التسعينيات موعدًا جديدًا مع التميز؛ عندما تمكن من إخراج مسلسله الدرامي الأول "أولاد وبنات" تبع ذلك فوزه بجائزة الدولة للإبداع الفني عام 2001 أعقبها بكتابة وإخراج الفيلم الوثائقي الطويل "رحلة ذهاب فقط" عام 2002 بـــروما في إيطاليا، وبعد عام عين بوزارة الثقافة المصرية، مديرًا فنيًا للسينما والفيديوتك بمركز الإبداع الفني لمدة ثلاث سنوات وبعدها عمل مخرجًا وثائقيًا بشبكة الجزيرة نهاية 2005.
بالانتقال إلى محور عمله مديرًا عامًا للجزيرة الوثائقية بعد عامٍ ونصف من انطلاق القناة عام 2007، فتح صفحة جديدة من الحديث طاف فيه حول الدور المعرفي والتنويري المتكامل الذي تلعبه الجزيرة الوثائقية عبر إنتاج أعمال في مجالات الثقافة، والعلوم، والبيئة، والتاريخ، والسفر والسياسة والفنون، وكيف تمكنت من إعادة ثقة المشاهد العربي بالسينما الأخرى بعد عقودٍ من الترهل.
"وراء كل صورةٍ حكاية" ذلك الشعار الذي ترفعه القناة الوثائقية، وعن كواليس تلك الكلمات الأربع، علق قائلًا: "نعمل دائمًا لصالح الإنسان عبر صناعة أفلام تعيد تشكيل مفردات الواقع المحيط لوضعها في سياق يكشف أبعادا لا يراها الجمهور، وفي الجانب المقابل نقدم السينما الجادة والمغايرة للسائد من خلال شاشةٍ واحدة تحاول أن تكون كل الأطياف والألوان السينمائية الفنية حاضرة عليها للتعريف بفنون وثقافات المنطقة ككل".
وتابع: "دورنا يرتكز على إعادة الاعتبار لمفردات الثقافة والهوية العربية، فمن واجب مسؤوليتنا العمل على اكتشاف أنفسنا ثقافيًا كي نعرف فيما بعد ذواتنا عند الآخر، ثم نتخطى الحدود السياسية الجغرافية، وهذا الهدف يتطلب منا أن يكون لدينا حس تنويري وتوعوي للجمهور يوفر له رؤى ومصادر مختلفة ومتعددة للتثقيف والمعرفة، بواسطة فيلم وثائقي منجز بكل موضوعية واحترافية وتقنية عالية".
وعد المدير العام ثلاث ركائز أساسية لإخراج فيلم وثائقي جيد (فكرة وإيمان وبحث)، شارحًا مقصده بالقول: "لابد أن يكون لدى الوثائقي فكرة يريد أن يوصلها للمشاهد، ومن ثم يبحث جيدًا عن الفكرة؛ لكن يجب أن يكون مقتنعا بالفكرة لدرجة الإيمان بها إذا أراد أن يصنع فيلمًا مؤثرًا"، مؤكدًا أن فكرة ومحتوي العمل أهم كثيرًا من التقنيات متسائلًا هنا: "ما قيمة القدرات بدون محتوى قوي يحقق الفائدة للجمهور؟".
الأستاذ أحمد يصف في هذا المضمار وظيفة السينما بـ"مرآة المجتمع" تتعامل مع وجدان المشاهد وليس عقله فقط، وكذلك يرى أن المخرج الوثائقي شخصٌ لديه عين حساسة جدًا، يستطيع أن يرى ما يراه الناس بطريقةٍ لا يراها إلا هو؛ فنحن نرى ونقرأ يوميًا من الأحداث الكثير، لكن الشخص الوثائقي بإمكانه أن يخرجها بصورة معبرة ومؤثرة ليحقق الفائدة للمشاهد.
صراع أزلي بين الفنان والمنتج
وزاد في حديثه: "القناة لا تتابع الأحداث الجارية على الأرض أو تلاحق التغيرات السياسية فذلك من اختصاص القنوات الإخبارية، التي تسعى لإنجاز بعض الوثائقيات أو الأفلام المتعلقة بالحدث وتفاصيله، ولهذا ينصب اهتمامنا على ما وراء الخبر والتداعيات الخفية، عبر البحث المركز عن الأسباب التي أدت لوقوع هذا الأمر أو ذاك بعيدا عن النقل الإخباري المعلوماتي الآني أو السطحي".
وحول واقع صناعة الأفلام الوثائقية بالمنطقة العربية، تحدث: "ما زالت صناعة وليدة تحبو بخطواته الأولى، رغم أنها كانت في الخمسينات والستينات منتعشة جزئنا وتحديدا في مصر وسوريا، وذلك الحضور كان مرهونا بحاجة الأنظمة للتعبير عن توجهاتها، لذلك تشكل لدى الجمهور نظرة أن الوثائقيات مملة غير ممتعة أو تستهدف النخبة غالبا، قبل أن تأتي الجزيرة وتغير تلك النظرة بل تمكنت من جذب صناع السينما والشباب منهم نحو إنتاج الأعمال الوثائقية".
واستطاعت قناة الجزيرة الوثائقية أن تحقق قفزة نوعية في ساعات الإنتاج الخاصة السنوية، من نحو 22 ساعة في السنوات الأولى وصولا لنحو 120 ساعة خاصة في الوقت الجاري، في حين تستقبل القناة من مختلف الشرائح والتوجهات أكثر من 2000 فكرة سنويا، بينما تمتلك في أرشيفها الخاص نحو 2500 عنوانا لفيلم وثائقي.
"وهل تسير عملية إنتاج الوثائقيات دون معيقات" كانت إجابته: "التحديات متعددة وشائكة، بعض مرتبط بالظروف الإقليمية والأوضاع السياسية وأخرى متعلقة بالتكاليف، فضلًا عن ارتباط إنتاج الأفلام بمدى توفر الحريات العامة"، كاشفًا عن وجود سيل من المقترحات لديه يتوقف تنفيذها على انتهاء الصراع الأزلي بين الفنان الجنوح بأفكاره والمتخطي للحدود وبين شخصية المنتج المقيد بورقة الحسابات وحجم الإمكانيات.
"لا بد أن قناتكم استفادت من مساحة الحريات التي وفرتها ثورات الربيع العربي"، على مداخلتي هذه يعلَّق: "تتطور الفنون وتزداد الأفكار في حالة التفاعل ولحظة إعادة كتابة التاريخ، وبناء على ذلك حدث خلال الحراك الثوري انتعاش في سوق الفن كما وكيفا على مستوى السينما والأعمال الوثائقية، قبل أن تتعرض بعض البلدان العربية لانتكاسة أثرت على أعمال منتجي الأفلام الوثائقية".
أمام تلك التحديات استطاعت القناة الوثائقية إنتاج سلسلة أعمال تميزت بالجودة وضخامة المنتج، كسلسلة "الحروب الصليبية" التي استغرق انتاجها ثلاث سنوات وتسعى إلى تقديم الأحداث التاريخية التي عاشتها أوروبا ومنطقة شرق وجنوب البحر المتوسط إبان حقبة الحروب الصليبية من زاوية عربية وإسلامية دون إغفال رؤية الأطراف الأخرى، بالإضافة إلى سلسلتي اكتشاف اثيوبيا ثم إندونيسيا.
وللأستاذ أحمد أعمال مميزة، أبرزها أخرج سلسلة وثائقية عن تاريخ الإسلام السياسي في 18 حلقة، فضلا عن مشاركته في رئاسة لجان ببعض المهرجانات السينمائية الدولية وتقديمه محاضرات خاصة لطلبة الماجستير، إلى جانب تقديمه ورشات عمل تدريبية في الإنتاج والإخراج السينمائي الوثائقي، والتي علق عليها بالقول "الشغف الذي أراه يوميًا في أعين المتدربين يبعث بداخلي أملا كبيرا لرؤية محتوى شبابي محترف ومتميز".
إجلال أهل العلم
"عالمية الرسالة" مصطلح شدد عليه نوح في الجزء الأخير مع حوارنا معه، فما الذي يقصده بهذا المصطلح؟، يجيب بكلمات من ذهب "هو أن يصنع المخرج ذو الجنسية المصرية مثلًا فيلما وثائقيا يحكي معاناة الشعب الفلسطيني جراء الاحتلال الإسرائيلي فيتفاعل مع الفيلم ويبكي على محتواه المشاهد الصيني أو الكوبي".
وأضاف في ذات السياق ليؤكد على ضرورة مخاطبة الإنسان أولًا وأخيرًا: "مسألةُ الدولة والحدود يجب أن تتلاشى لدى صانع الفيلم الوثائقي، حتى تتعارف شعوب الدول فيما بينها وتقترب أكثر من زخمها الثقافي والتاريخي، وهنا يبرز الهدف الأسمى أن نكون أكثر التصاقًا ووضوحًا وإبرازًا لما هو إنساني وواقعي بعيدًا عن التصوير الإخباري والآني للأحداث المرتبطة أساسًا ببعض المتغيرات السياسية والاجتماعية والجغرافية".
مخرجنا أحمد محفوظ نوح، الذي يعتبر السينما بمثابة الزوجة الأولى، عايش مواقفَ بعدد شعر رأسه يكشف في نهاية حديثه عن أقربها إلى ذاته، "عندما كنت أدرس في المعهد نلت فرصة بمقابلة المخرج مصطفى العقاد والحديث معه خلال ورشةٍ عامة عن صعوبة تجربته في صناعة فيلمي الرسالة وعمر المختار وما تعرض له من الكثير من التجاذبات والنقاشات مع دولٍ وأنظمة بأكملها".
ويتابع: "مضت أعوام على اللقاء الأول حتى جاءني الصديق عمرو القاضي أثناء عملنا على إنتاج فيلم سينمائي وقال لي غدًا سنقابل شخصا مهما ظننت أنه شخص له علاقة بالفيلم، فقال: "لا إحنا هنقابل مصطفى العقاد، قلتله مين!".. بالفعل ذهبنا إلى الفندق، وعندما جاء جلست على طرفي الكرسي إمعانًا في الاحترام، حينها أحس أنني أتعامل معه بشكل فيه تبجيل فما كان منه إلا أن قال "مالك يا أحمد متنشن كده ليه؟ اهدأ وتكلم بحريتك، أنت مخرج وأنا مخرج".
وينهي سرد الموقف بذكر العبارة الأجمل: "بدأ حديثه عن تجربته الجديدة مع فيلم عن صلاح الدين الأيوبي وحتى يهدأ من روعي اقترح أن أكون أحد المخرجين المساعدين له بفيلمه الجديد، وقال: "أتمنى أن نصنع هذا الفيلم معًا"؛ وهنا أدركت أن القامات الكبيرة مثل هذا الرجل يرزقها الله التواضع وأحسست أن الفنان الحقيقي المتبني لقضايا شعبه متواضع في أصله".