قائمة الموقع

"نيران السوق" تلتهم أحلام عائلة "حسين"

2020-03-08T09:20:00+02:00
حادثة النصيرات (أرشيف)

تلمح في عينيه نظرة لا وصف لها، فقط نظرة غامضة مترعة بحزن أسود غريب! لكنه يحاول إجبار ملامح وجهه على اتخاذ معالم أخرى تعاكس حجم الفاجعة التي يعيشها بعد أن فارق زوجته إيمان حسين (أبو محروق) وطفلتيه "ليان ومنال"، يرسم صورة أخرى من صور الصبر والتحمل أمام هول الصدمة.

كان الأمر صعبًا، أن تعيد ترتيب مشهد بدايته سعادة وفرح ومخططات عائلية وأحلام بسيطة تحققت وأخرى طفولية تغيب وراء الأفق لتتجدد مع إشراقة يوم جديد، ونهايته مأساوية سجلتها فاجعة سوق النصيرات وسط قطاع غزة ظهر الخامس من مارس/ آذار 2020.

مخططات جميلة

"ككل صباح، استيقظت طفلتي ليان سعيدة بالتسجيل للصف الأول، وأنها ستنهي التمهيدي، واشترت حلوى وزعتها على فصلها بالروضة، في اليوم ذاته (الخميس) كنا متفقين على الخروج إلى المطعم، لأقدم هاتفا محمولا جديدا هدية لزوجتي (...) إيمان كانت بدها تشتري ملابس جديدة لليان ومنال بمناسبة إشهار ابن عمها.."، كلماته تلك كانت تقطر حزنا، وملامح وجهه ترسم فصلا من فصول الوجع.

في العمل ينظر حسن باتجاه حريق، وسحابة سوداء تخرج من وسط سوق النصيرات تبعد عنه مسافة أربعة كيلومترات. في الأثناء يتصل به صديقه: "سلامات يا أبو عمر.. وين أنت؟ بالشغل؟، أكمل المتصل كلامه: "بحكو مخبز البنا مولع والأمور صعبة عنده"، قبل أن ينتبه للتفاصيل عبر عن حزنه لما أصاب المخبز: "الله يرفع عنهم ويجبر كسرهم"، ولا يدري ماذا سيحل به.

بعدما أنهى المكالمة، زحف القلق إلى قلبه، تذكر أن زوجته وطفلتيه في السوق، تزاحمت السيناريوهات في رأسه، أمسك هاتفه، واتصل بزوجته، وكلما عاود الاتصال أعطى الهاتف إشارة بعدم إمكانية الوصول.

بتوتر شديد عاود "حسن" الاتصال بصديقه مرة أخرى: أنا في شيء غلط معي.. مرتي بالسوق وهناك حريق! ... حاول صديقه طمأنته: مش معقول تكون من بين كل هالناس زوجتك!

يعيد "حسن" نبش تفاصيل الساعات الأخيرة التي كوت قلبه: "كانت المسافة بيني وبين الحدث 4 كيلومترات، ذهبتُ بالدراجة النارية، شعرتُ أنها أطول من ذلك بكثير، وأول ما وصلت سألت أحدهم: أكم واحد متوفي، فقال: "حتى الآن ولا واحد" فبرد كلامه قلبي، وذهبت أبحث في المحلات التجارية واحدا واحدا عن زوجتي، وقبلها عدت إلى المنزل القريب من المكان لأعرف أي جلباب ارتدت كي يسهل علي التعرف عليها كونها منقبة، وأسال لكن دون جدوى لم أجدها".

وعند الساعة الثالثة عصرًا، اتصل بي أخي وكان قلقًا: "تعال إلى مستشفى الأقصى"، سألته: لقيت اشي عندك؟.. لم يعطِ إجابة، فذهبت مسرعًا للمشفى".

عاصفة قريبة

"الخاطر واحد يا بن عمي"، بتلك الكمات قابل حسن عمه والد "زياد حسين" (من ضحايا الحريق) على عتبات باب المشفى بعدما علم أنه مات حرقا، ولا يعلم أن عاصفة من الحزن ستغير على قلبه بعد قليل.

يتابع سرد التفاصيل الأخيرة بصوت بدا كجمرة أذابها الفراق: "مباشرة دخلت الثلاجات، فسألني الطبيب: "ايش فاقد؟"، أجبته: "زوجتي وطفلتين، وحددت مواصفاتهن: وحدة شعرها أحمر والأخرى أسود".

"ثم بدأ يفتح لي ثلاجات الموتى، وكلما سحب أكثر كان الجرح يغير في قلبي.. تعرفت عليهن، كانت الحروق كبيرة، عرفت زوجتي من ملامحها ولون جلبابها النهدي -يبدو أنهن توفين نتيجة انهيار سقف المحل- بعد ذلك نظرت لطفلتي منال، لم يكن شعرها محترقا، كانت مثل ملاك نائم، كانت ترتدي قميصا أبيض اشتريته لها قبل مدة، وقبل أن أغادر ناداني الطبيب: "استنى في كمان جثة طفلة".

استدار "حسن" ولم يقوَ على النظر إلى "ليان"، التي كان يرى فيها الوجه الآخر للشمس..

الضيافة الأخيرة

تدغدغ ذكريات "ليان" القريبة قلبه، مستذكرًا فرحتها الكبيرة بالتسجيل للمدرسة، "فقبل يومين؛ عندما عدت من العمل كانت نائمة، وفي صباح اليوم التالي قلت لها: ليان بابا.. بدنا نسجلك بالمدرسة، وكأنه شيء كبير، خرجتْ إلى الخارج تنادي ببراءة وفرحة غمرتها: "تيتا.. سيدو بدنا نسجل بالمدرسة، ثم ذهبنا للحصول على نموذج التسجيل".

وفي طريق العودة إلى الروضة طلبت ليان من والدها توزيع الحلوى على زملائها في الفصل "عشاني كبرت سنة وبدي أسجل بالمدرسة .. فأقنعتها أن تؤجل الأمر ليوم الخميس (يوم الحريق)، وبالفعل ذهبت وقدمت الضيافة الأخيرة، وبقي نموذج التسجيل في البيت".

ما زال حسن ينبش في آخر المواقف: "منال الصغرى كانت تقبلني كثيرا بالفترة الأخيرة؟ أذكر ما قالته لي: "والله بحبك كتير.. اشتقنالك، انت بتسيبنا وبتغيب كتير"، زاد حجم اهتمام زوجتي بي وكأنها علامات الرحيل الأخيرة، كان موعدنا الخميس لأقدم لها هاتفا جديدا (شاومي 8 برو) كونها ماهرة بإعداد قوالب الجاتوه وتريد أن تتبادل الصور مع شقيقاتها".

يضيف: "أكثر شيء صعب علي هي ابنتي جنة (عام وثمانية أشهر) اللي ضلت عند أمي، تعتقد أن أي امرأة منقبة تأتي للعزاء هي والدتها.. تنادي عليها "ماما" وحينما ترفع النقاب، تسأل: "وين ماما؟ ثم تسألني عن ليان ومنال، فلا أستطيع الإجابة".

بماذا كانت منال وليان تحلمان؟ برقت عيناه في لحظة ألم قاتلة.. قبل الإجابة أخرج محارم بيضاء من جيبه ليمسح بها دموعه لكن سبقته قطرة ثم تبعتها أخريات، مجيبا بعد أن تمالك نفسه: "كان نفسهم بغرفة أطفال.. جمعت نصف ثمنها"، ثم واصل البكاء..

اخبار ذات صلة