عمر عبد الرحمن
(معهد بروكينغز)
أتى الجواب الفلسطيني على "صفقة القرن" التي طرحها الرئيس الأمريكي ترامب في شكل رفض سريع متوقع. وبعد مغازلة وجيزة مع ترامب وفريقه منذ أكثر من عامَين، بات محمود عباس؛ رئيس منظّمة التحرير الفلسطينية ورئيس السلطة الفلسطينية، منذ ذلك الحين يعتبر جهود البيت الأبيض مؤامرةً لتصفية الحركة الوطنية الفلسطينية، وهي تهمة كرّرها في مجلس الأمن مؤخرًا.
وفي الأيام التي تلت إعلان الخطّة في 28 كانون الثاني (يناير)، دعا عبّاس شعبه للنزول إلى الشارع للاحتجاج، وطلب عقد اجتماع طارئ للجامعة العربية في مصر، وبعث برسالة إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي يهدّد فيها بوقف كلّ التنسيق بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل، بما في ذلك موضوع الأمن.
وتثبّت تفاصيل الخطّة مخاوف عبّاس بالإجمال. وتلتزم ما تدعى "رؤية" ترامب بشكل وثيق للغاية بالمواقف التي يتبنّاها أقصى اليمين الإيديولوجي في (إسرائيل)، بل انها تستعين بلغته وخطابه، مثل اللجوء إلى إشارات توراتية لتبرير السيطرة السياسية الإسرائيلية على القدس. وهكذا، في حال تمّ السماح بنشوء دولة فلسطينية، فإنها ستكون دولة بالاسم لا أكثر، وستكون مجردة من كلّ عناصر السيادة ذات المغزى، وستقع على أرخبيل من الجيوب المعزولة والمهمّشة التي تشبه البانتوستانات في جنوب أفريقيا في حقبة الفصل العنصري. وستحتفظ (إسرائيل) بأكثر من 30 في المائة من الضفّة الغربية وكلّ مستوطناتها والقدس بأسرها، فضلًا عن الاحتفاظ بسيطرة تامّة على الأمن والمياه والأجواء والحدود -وحتّى المعاهدات والتحالفات الفلسطينية. وستكون الاستقلالية الفلسطينية مقيّدة جدًا لدرجة أنّ على "الدولة" الجديدة أن تطلب الإذن من (إسرائيل) لحفر بئرٍ لأنّ حقوق المياه الجوفية تبقى في يد (إسرائيل).
وبكلمات أخرى، الخطّة مهزلة. ومع ذلك، لا يأتي التهديد الفعلي المتمثل في تصفية الحركة الوطنية الفلسطينية من (إسرائيل) أو الولايات المتحدة، وإنما يأتي من فشل قيادتها نفسها. وبطبيعة الحال، كشفت رئاسة ترامب عن الوهن الأساسي للسياسة الفلسطينية وخمول قادتها وحالة مؤسّساتها الرثّة بعد أكثر من ربع قرن من عمليات السلام والفشل التام لاتفاقيات أوسلو.
سلسلة من النكسات
منذ زمن الانتداب البريطاني في فلسطين وحتى تجدّد الحركة الوطنية تحت لواء منظّمة التحرير الفلسطينية بقيادة ياسر عرفات وإلى يومنا هذا، عارضت (إسرائيل) بالإجمال التطلّعات الوطنية الفلسطينية، وعادة ما كانت الولايات المتحدة حليفًا حاضرًا في الجهد المبذول لإعاقة هذه التطلّعات. ومع ذلك، لم تختفِ الحركة الوطنية الفلسطينية ببساطة، وإنما صمدت وتخطّت الكثير من التحديات والنكسات عبر الزمن.
ومع أنّ (إسرائيل) اعترفت في نهاية المطاف بمنظّمة التحرير الفلسطينية مُمثلًا شرعيًا للفلسطينيين في العام 1993 مع توقيع اتّفاقيات أوسلو، فإنها لم تقبل آنذاك بحقّ الفلسطينيين في تقرير مصيرهم في دولة سيادية خاصّة بهم. وعوضًا عن ذلك، عكست اتفاقيات أوسلو حدودَ ما كانت إسرائيل مستعدّة للقبول به منذ بداية المفاوضات: كيان فلسطيني مجرّد من الجنسية للاهتمام بالحوكمة المحلّية في الضفّة الغربية وقطاع غزّة، والذي يعفي (إسرائيل) بذلك من معظم واجباتها كمحتلّ عسكري ويسمح لها في الوقت نفسه بممارسة السيادة على كامل الأراضي. ومن دون تقدير أساسي متقاسَم لما ستؤول إليه المفاوضات أو من دون أيّ شروط قانونية مرجعية، حوّل انهيار الاتفاقيات في النهاية هذا الاتفاق المؤّقت إلى وضع مستمرّ. وعلاوة على ذلك، سيكون هذا هو ما ستكرّسه خطّة ترامب جوهريًا بشكل نهائي في حال تم تطبيقها.
ولكن، على مدى أكثر من عامَين، وبينما وضع فريق ترامب مبادرة تلو الأخرى بشأن السياسات إما بهدف ترسيخ السيطرة الإسرائيلية على الأراضي المحتلّة، بما في ذلك القدس، أو بهدف تقويض المواقف الفلسطينية، لم يصدر عن عباس والمقرّبين منه سوى شعارات بالية. فعوضًا عن مواجهة الاقتراح الوشيك بشكل فاعل عبر تقديم رؤية بديلة والعمل مع الحلفاء في المنطقة وخارجها لحشد الدعم لها على الأقل، لم تحرّك القيادة الفلسطينية ساكنًا وانتظرت من دون وضع استراتيجية أو رؤية مُقنعة.
تعرف (إسرائيل) أنّ تهديدات عبّاس بإنهاء تعاون السلطة الفلسطينية معها أو حلّ السلطة برمّتها ليس أمرًا يمكن القيام به. فكان ذلك يتطلّب، في مرحلة ما على مدى الأعوام الخمسة عشر الأخيرة، بناء البدائل اللازمة لهيكليات حقبة أوسلو التي تعفي (إسرائيل) من مسؤوليات الحكم مع تعزيز اتّكال الفلسطينيين عليها في كلّ شيء، ابتداء من المياه والكهرباء وصولًا إلى المرافئ والرخص. وبناء على ذلك، قد يكون القيام بمناورات ذات صلة على غرار قرار السلطة الفلسطينية مؤخرًا بحظر استيراد بعض المنتجات الإسرائيلية إلى الأسواق الفلسطينية أمرًا فعالًا في المبدأ، لكنّ الفلسطينيين غير جاهزين أبدًا للحرب التجارية التي ستنشب جراء ذلك على الأرجح. وسيكون انتشالُ الفلسطينيين من هذه الورطة من دون خطر هائل على رفاههم مهمّةٌ تتخطّى مؤهلات هذه القيادة.
وعوضًا عن البحث عن مخرج من فوضى أوسلو، غاص عبَّاس أكثر فأكثر وأصبح أكثر اتِّكالًا على الرضا الإسرائيلي والأمريكي للسير قدمًا بقضية إنشاء الدولة الفلسطينية. وعوضًا عن تمتين العلاقات المُجدية في الخارج، ومن ضمنها العلاقات بين الشتات الفلسطيني، تمحورت استراتيجيته حول انتظار حدوث تغييرات جذرية داخل (إسرائيل) أو الولايات المتحدة، والتي قد تُنقذ حلّ الدولتَين. وبفعل هذا الاتّكال الشديد أصبحت (إسرائيل) والولايات المتحدة في موقع أتاح لهما إلحاق ضرر جسيم إلى هذا الحدّ بالحركة الوطنية.