يسقط في الحروب قتلى وجرحى ويقع أسرى، ولدى الشعوب، متخلّفة كانت أم متقدمة، صاحبة حضارة عريقة، أم أمة مستحدثة، فالتنكيل والتمثيل بالجثث، منبوذ وممنوع.
الحديث عن جثّة عدوّك، العدو الذي كان حريصًا على قتلك قبل لحظات، مثلما كنت أنت حريصًا على قتله، فبمجرد أنك تمكنت منه وقتلته أو أسرته، يتحول العدو إلى إنسان أو جثة إنسان، ويفترض أن تبقى أنت إنسانًا، رغم أنك قتلته أو أسرته. من حقك أن تحتفي بانتصارك كما تشاء، ارفع شارات النصر، أرسل خبر انتصارك لحبيبتك ولذويك ولأصدقائك، أطلق النار في الفضاء، ولكن لا تمثّل بجثة عدوّك ولا تنكّل بأسيرك.
كراهية عدوّك وحقدك عليه مهما كان، لا يمنحك شرعية بأن تمثل بجثته، لا يوجد شيء كهذا في أي حضارة، أو لدى أي شعب يعتبر نفسه من الأسرة البشرية.
هذه مناسبة كي نذكّر أولئك الذين يرفعون شعار محاربة "الإرهاب الإسلامي" من الغرب والشرق، من العرب ومن اليهود والعجم، من المؤمنين والملحدين، بأن الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، نهى عن التمثيل بجثث الكفار، حتى بجثة من قام بالفعل نفسه، أي أنه نهى عن التمثيل بجثة من مثّل بجثث المسلمين، فالصبر أولى، والله يجزي الصابرين.
ورغم ذلك ففي تاريخنا العربي جرى تنكيل في الجثث، من هنا كانت مقولة أسماء ابنة الخليفة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، عندما قال لها ابنها عبد الله بن الزبير "أخشى يا أماه أن ينكل أهل الشام برأسي بعد قتلي" فقالت له:" وما يهم الشاة سلخها بعد ذبحها". وبالفعل صلبه جنود الحجاج بن يوسف بعد قتله، فقالت مقولتها الشهيرة "أما آن لهذا الفارس أن يترجّل"!
هناك من يبرر ويبارك بنذالة وخسّة وحضيض، ما قامت به الجرافة قبل يومين في خان يونس من تمثيل بجثة المقاتل الفلسطيني محمد علي الناعم.
النذالة ليست متوقفة على جنس أو عرق، فالعرب أيضًا وأقصد عرب هذه الأيام، من نفايات الأنظمة، أيضًا نكلوا ومثلوا بجثث أبناء جلدتهم أحياءً وموتى، ونبشوا قبورًا وبعثروا جثثا.
الخزي والعار ليس فقط لمن رفع الجثة بالجرّافة التي قد تكون شاركت في هدم بيوت واقتلعت أشجارًا، الخزي والعار كذلك لمن ينافقون لنظام عنصري إرهابي، هذا النظام الذي اتخذ سياسة الإنسانية المحروقة طريقًا ومذهبًا، هذا الفاشي الذي لا يرى التعامل مع الفلسطيني إلا من خلال الجرافة والطائرة والرصاصة ثم التمثيل بجثته، بعد أن اعتاد حبسها، ودفنها في مقبرة أرقام.
هذا الإرهابي الذي يعوي كما الذئب في الليل والنهار، بأنه يحارب "الإرهاب الإسلامي" تارة و"الإرهاب الفلسطيني" تارة أخرى، والإرهاب العربي والفارسي والتركي، يبارك التمثيل بالجثث.
تعتبر الجرافة مظهرًا من مظاهر البناء والتقدم والحضارة، إلا في فلسطين، فهي آلة هدم واقتلاع ودفن جثث، وها هي تتقدم خطوة أخرى، لترتقي وتصبح أداة تمثيل بالجثث.
وزير جيش، أو وزير أمن، أو رئيس حكومة، أو عضو كنيست، أو موظف صغير، أو عامل حفريات، يعرب عن رضاه بمشهد التمثيل بجثة مقاتل، هو فاقد لأدنى صفة من صفات الإنسان.
لن أخاطب أولئك المتهافتين على العلاقة مع هذا النظام العنصري، لن أقول لهم أي كلمة، لأنهم ليسوا أفضل منه، عندما يتعلق الأمر بسلطاتهم، فهم لا يقلون وحشية عن الجرافة ولا عن تفاهة سائقها، ولا عن السكاكين التي قطّعت جثة الصحفي السعودي الخاشقجي، كلهم في خانة الإرهاب المنظم في مواجهة شعوب المنطقة الطامحة للتحرر من العنصرية ومن الإرهاب بكل أقنعته ومن الاحتلال، تجمعهم كلهم مزبلة أجياف واحدة.
قد يتأخر الحساب، وقد تتعثر مسيرة الشعوب في طريق حريتها، لكنها حتمًا ستصل، ولو بعد حين.
لا أقول هذا ككلام جاهز وكليشيهات اعتدنا عليها، لا، بل لأن التاريخ الماكر يعلمنا بأن هناك من كانوا أشدَّ بأسا وقوةً وبطشًا من طغاة هذا العصر، وكانت نهاياتهم نهايات سوء وندم، حيث لات من مندم، ولا يُذكرون إلا واللعنة تلاحقهم.
دولة الظلم ساعة، ودولة العدل إلى قيام الساعة، وليس لشعبنا وشعوبنا العربية، سوى الصبر على البلاء، مهما بدا الليل بهيمًا، ومهما بدا الطغيان جبّارا، ومهما فرك الباطل يديه انتصارًا وفرحًا، فلا بد من انتصار الدّم على الجرافة، والإنسانية على الضَبْعنة والتّمسحة، والنُبل والشهامة على الحقارة والانحطاط.