عقارب الساعة وصلت في دورانها عند الثامنة والنصف صباح الثالث والعشرين من فبراير الجاري، لم يصل الخبر بعد إلى منزل آل "الناعم"؛ والدته "أم حسن" تنظر من نافذ غرفة نجلها "محمد" السابقة والذي انتقل لسكن آخر، وهي تحدث شقيقتها عبر الإنترنت، إلى ثلاجة الموتى بمستشفى ناصر بمدينة خان يونس المجاورة لمنزلها، مشاركة إياها هذا المشهد: "يختى؛ في ناس عند المشرحة كتيرة، أبصر ايش صاير؟"، لم تجد إجابة لسؤالها لكن الأخيرة قربت الأمر: "الفجر استشهد اثنين على السياج بخان يونس.. والأخبار مقلوبة".
"أم حسن" تعبر عن حزنها بذلك لشقيقتها: "الله يصبر أهله يا رب"
انتهت المكالمة مع شقيقتها، لكنها شردت في تفكيرها وبدأت الأسئلة تباغت تفكيرها، فأخذها قلبها إلى ابنها، لكنها شردت من هذا التفكير تحدث نفسها: "لو ابني كان حكولي"، وأكملت عملها بالبيت بشكل طبيعي، عادت مرة أخرى فتحت النافذة فوجدت أعداد الناس تتزايد بالمشرحة والمستشفى وأمام منزلها، تزامن مع اتصال أحدهم على زوجها يخبره بإصابة محمد واحتجاز الاحتلال له، خبر وقع كـ"الصاعقة" على والديه.
زوجته "هبة الكرهلي" ما زالت تتجاهل كل المكالمات الهاتفية الواردة على هاتف زوجها الذي تركه بالبيت، حتى أفزعها صوت رسالة هاتفية ترك صدى صوت الرنين أثره بالغرفة واخترق قلبها وافتعل ضجيجُا فيه أخرجها من حالة الهدوء، وأجبرها على فتحت الرسالة، وما أن قرأت نصها: "نزف الشهيد المغوار محمد علي الناعم" وكأن الدم تجمد في عروقها، حبست أنفاسها، اهتز قلبها ورجت دقاته وهي تقرأ الرسالة، مطلقة العنان لدموع حزنها بالجيران على وجنتيها، ولصوتها بالانفجار الذي لم يسمعه غيرها.
الساعة السابعة من مساءً أول من أمس، كانت "فلسطين" حاضرة في بيت العزاء بمدينة خان يونس، هناك ترسم ملامح كل شخص تقابله قهرا على بشاعة الجريمة، تعكسه عيون تسكب أحزانها، وقلوب تئن من الألم وتبكي غضبُا، تتشابه مع ما يصدر من مكبرات الصوت في الحزن: "قمري الشهيد.. عمري الوحيد، حضن الردى بعد الصمود ومضى إلى دار الخلود".
جريمة لا وصف لها
يحاول والده أبو حسن تمالك نفسه لكنه لم يجد وصفًا لما حدث مع نجله.. احتارت كلماته هنا: "المشهد بشع ولا وصف له، رغم أنني لم أرَه ولا أريد رؤيته لأني فهمت مضمونه من الوصف ورأينا كيف ينكلون بالناس بالضفة، لأن هؤلاء (جيش الاحتلال) أناس قذرون يستخدمون أبشع الأساليب في الانتقام من الناس وهذا ما يقهرك".
"أبو حسن" الذي يجلس على كرسي بلاستيكي، كان يحاول التماسك قبل أن تغلبه عيونه التي لم تستطع حبس دموعها عائدًا لآخر اللحظات مع نجله الشهيد: "كان عندي أمس (قبل الاستشهاد بليلة) من الظهر حتى المساء فهو يوميًّا يزورني، وفي المساء جاء وأخذ زوجته إلى بيته ودعانا إلى طعام الغداء وها اليوم نحن نجلس في العزاء".
"هو أصغر أبنائي الذكور الأربعة، كان مرحًا يحب الضحك ونيل رضانا".. يرثي أبو حسن نجله قبل أن يسدل الستار على حديثه مع توافد طابور من المعزين.
في داخل منزل العائلة، الدموع تركت أثرها حول عيني والدة الشهيد بعد أن نال وجع الفراق منها ما ناله منذ الصباح، تنهيدات الوجع التي تخرج من حنجرتها "المحروقة"، تروي مائة حكاية من الألم، تقاطع الدموع صوتها: "حرام عليهم اللي عملوه فينا.. مش استشهد شو بدهم هيك يعملوا فيه".
تهيأت عيناها بعدما أبرقت، ذرفت دمعة وتبعتها أخرى بعد أن روت التفاصيل السابقة، لا يفر المشهد الأخير لها مع ابنها من حديثها: "جاءني الساعة العاشرة مساءً، يحمل طفله "حمزة" وكان سعيدًا ينادي علي؛ وقال لي: "شوفي يما حمزة ما أحلاه.. جاي أفرجيه على بيته"، فقلت له: "شكلك حنيت لغرفتك"، ودعاني للغداء غدًا (يوم استشهاده)".
"بنجيك يوم وظيفتك".. بتلك الدعوات من أمه غادر محمد وانتهى المشهد هنا.
حتى تفاصيل الوجع هنا مرهقة: "مش قادرة أشوفه من بشاعة الوصف.. فكيف إذا شفته؟".
تحتضن "أم حسن" بين ذراعيها حفيدها الرضيع "حمزة"، الذي أصبح يتيمًا بين ليلة وضحاها، يرى الدموع حوله تنساب من كل العيون هنا، جاهلًا ما يحدث، يلتفت بنظراته يبحث بين الحاضرين عن حضن ودفء والده لكنه لم يجد الإجابة، تمسح جدته على رأسه بعد أن بللته دموعها.. تسكن صوتها بدعوات الصبر: "حسبي الله ونعم الوكيل في اللي عمل فينا هيك".
"محمد حنون، يحب أن يمشي الجميع على السراط، بتمني كل أم يكون لديها ولد مثله، أتذكره يوم زفافه انحنى أمام قدمي ليقبلها، رغم أن حالتي المادة أفضل منه لكنه كان يصر على إعطائي طامعًا بأن ينال الرضا"، سكت الصوت وأكملت العيون رواية حكاية أم فارقت نجلها، حتى مواراته تحت الثرى حرمت منها.