من حيث ظن المحتل أنه حسم المعركة، ومن حيث ظن أنه صنع النموذج المقتدى للتقسيم زماناً ومكاناً، من المسجد الإبراهيمي في الخليل انطلقت حملة الفجر العظيم في 29-11-2019 لتقول له إنه واهم، وإن المعركة لم تُحسم. إلى المسجد الأقصى سرت روح الفجر العظيم، لينطلق هناك في 10-1-2020، ولتنطلق روح الفجر العظيم من الأقصى إلى كل مدن فلسطين بحلول فجر الأمل في 24-1-2020. وبينما نكتب هذه السطور تمضي الخليل نحو فجرها العظيم الثالث عشر على التوالي، والقدس إلى فجرها العظيم السابع، فيما تمضي مدن فلسطين إلى فجرها الخامس، فما جدوى الفجر العظيم؟ وإلى أين يمكن أن يصل؟ وأي دلالاتٍ سياسية يحمل؟
كسر العزلة وإرادة الرفض:
مشكلة الاحتلال الأساسية مع هذه الحملة هي أنها تعيد تواصل الجماهير مع المسجد الأقصى المبارك بعد 20 عاماً من محاولات عزله المتتالية. منذ اقتحام شارون للمسجد الأقصى المبارك عام 2000 صعدت محاولات تهويده إلى الواجهة، ومع بدء الاقتحامات الصهيونية للأقصى على الأرض في شهر 6-2003 بدأ طرح التقسيم كخطة مرحلية لإيجاد موطئ قدم للمتطرفين الصهاينة فيه، ولم يكن من الممكن لهذا التقسيم أن يمضي إلى الأمام في ظل الحضور الإسلامي البشري الكثيف في الأقصى، فكان لا بد من بناء عزلة حول الأقصى للاستفراد به، بدأت بمنع رواده من أهل قطاع غزة عام 2000، وبعزل أهل الضفة الغربية عنه مع اكتمال مقاطع الجدار حول القدس 2003-2004، وبتثبيط وإحباط رباط أبناء الأرض المحتلة عام 1948 بحظر مؤسسات الرباط والحركة الإسلامية، وصولاً إلى محاولة ترهيب المقدسيين من دخول البلدة القديمة والمسجد الأقصى بالحضور الكثيف للشرطة وعمليات الإعدام الميداني والاعتداء على المرابطين واعتقالهم وإبعادهم عن الأقصى. أما في المسجد الإبراهيمي فالقصة ذاتها لكن عمرها 25 عاماً، وبمقدار أكبر من النار والدماء كرسها اتفاق الخليل المجحف بكل أسف.
كل هذا المسعى والتخطيط على مدى 20 عاماً تبدده حملة الفجر العظيم اليوم، فهي تعلن الإصرار على رفض تصفية حقها في الأقصى وفي الخليل وإن طال الزمن وعظُمت التضحيات، وهي بذلك تعيد مخطط التقسيم الزماني والمكاني للأقصى إلى نقطة الصفر، بإعادة التدفق البشري الكثيف إلى الأقصى، وتهدد بإنهاء الاستثناء المؤقت الذي حصل عند تقسيم المسجد الإبراهيمي بالطريقة ذاتها.
الفجر العظيم في مواجهة القمع:
يخشى المحتل بطبعه أي تحركٍ شعبي، خصوصاً إذا كان يحصل في نقطة اشتباكٍ مباشر مع قواته مثل القدس والخليل، ولذا فإن المحتل بات يسعى إلى ضرب هذا التحرك في القدس تحديداً بثلاث أدوات أساسية: قمعه أولاً بالاعتقال والضرب والإبعاد وإطلاق الرصاص المطاطي بكثافة لم تشهدها القدس منذ الانتفاضة الثانية، وثانياً بمنع وصول المرابطين وبالذات من الأراضي المحتلة عام 1948 باحتجاز الحافلات وإرجاعها، وثالثاً بوأد المبادرات المجتمعية بملاحقة من يوزع الحلويات والمشروبات الساخنة والكعك، أو إغلاق مخبز كعك أبو اسنينة في باب حطة وحلويات أبو اصبيح في شارع الواد.
هذه الإجراءات من الممكن لها أن تؤثر على المعنويات، وأن تؤدي بمن دفعوا أثماناً باهظة إلى أن يحاولوا تجنب دفعها من جديد في أوقات متقاربة، كي يحافظوا على قدرتهم على الاحتمال، ولهذا تحديداً نحتاج إلى احتضان حملة الفجر العظيم ودعمها بكل ما نستطيع، حتى لا نسمح للاحتلال بالاستفراد بالمقدسيين فيها، وهذا بالضبط قيمة ما تتلقاه من دعم يضيفه تحرك الضفة الغربية وغزة والشعوب العربية، هو فعلٌ بسيط يضمن الاستدامة، ويحافظ على الآفاق مفتوحة لتطوير الفعل، وهذا أكثر ما يخشاه الاحتلال.
أما على المستوى الميداني فهناك وسيلتان مركزيتان لإفشال مسعى الاحتلال بوأد المبادرات:
أولاً بتعدد المبادرات ومصادرها بشكلٍ يفوق قدرته على الملاحقة، بحيث تخرج الضيافة للمرابطين من كل بيت صباح كل جمعة، فلا يتمكن المحتل من تحديد أهدافه لملاحقتها من الأساس، وبدعم أصحاب المبادرات الأولى والوقوف إلى جانبهم لمنع المحتل من الاستفراد بهم وجباية ثمنٍ باهظ منهم لمبادراتهم.
في الخليل فالمسار الأكثر احتمالاً لضرب تحرك الفجر العظيم هو الضغط على قيادة السلطة الفلسطينية لتخرج ناشطي حركة فتح من هذا الحراك، ولتدفعهم للعمل باتجاهٍ معاكس له لوأده عوضاً عن دورهم في احتضانه اليوم، ومواجهة ذلك تتطلب تحصين المدينة بموقف جامعٍ لا رجعة عنه. إذا ما فشل مسعى الاحتلال بإرباك حملة الفجر العظيم من داخلها في الخليل، فإن الاحتلال سيستخدم ما يستخدمه في القدس من قمعٍ ومنع وصول ووأد المبادرات الأهلية العظيمة التي يقدمها أهل الخليل، وحينها سيصبح النضال واحداً في شكله وأدواته في القدس والخليل، وربما يصبح واحداً في أهدافه التي يمكن تحقيقها أيضاً.
الفجر العظيم: من إرادة الرفض إلى فرض التراجع:
تبحث قوى المقاومة والحركات الشعبية اليوم عن مسارات فعلٍ تواجه بها صفقة القرن التي أعلنها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لتصفية القضية الفلسطينية، وحملة الفجر العظيم تطرح نفسها كمسارٍ عملي مركزي لمواجهة صفقة القرن أفرزته الجماهير وتبنّته، فهي في المبدأ تحمل جواباً مضاداً لصفقة القرن في جانبيها المركزيين:
فصفقة القرن جاءت لتصفية الحق الفلسطيني، ولتقول بأنه انتهى ولم يعد من المجدي الدفاع عنه، ولا بد من التسليم بالقدر الصهيوني الأمريكي، لكن الفجر العظيم جاء ليعبر عن إرادة الرفض، وعن التمسك بالحق وعنوانه المقدس في الخليل والقدس، فهي تُفشل إذن الرهان على اليأس من الدفاع عن هذا الحق، بل تثبّت أنه صامد لا يتزحزح في قلوب الجماهير مهما كان موقف الأنظمة.
وصفقة القرن تتزامن مع حملة تطبيع وتراجع عربي رسمي واسع، لتقول بأن هذه القضية باتت قضية محلية تشكل عبئاً على العرب والمسلمين، ولتحاول وضع الفلسطينيين في زاوية المضطر للتسليم نتيجة التخلي الواسع عنه، وحملة الفجر العظيم مرشحة اليوم لتقول نقيض ذلك تماماً، فإذا ما تواصلت وعظمت لتخرج بالجماهير من جاكرتا وكوالالمبور إلى الرباط مروراً بالكويت واسطنبول وعمان وغيرها من المدن والعواصم، فإنها ستفشل رسالة رهان التطبيع بل وتؤسس لنقيضها، والمطلوب اليوم من النخب والحركات الشعبية أن تحتضن هذا الحراك وتنخرط فيه مدركةً إلى أين يمكن أن يصل.
الفجر العظيم ينطلق من الرفض لكنه يمكن أن ينتهي إلى ما يحوّل هذا الرفض إلى واقع، فإذا كان الفجر العظيم قد تمكن من جذب كل هذا الحضور الشعبي في الشتاء في درجات حرارة تقارب الصفر، فكيف إذا ما وصل إلى الربيع والصيف؟ وإذا ما تمكن الفجر العظيم من جذب المصلين في أيام الجمع العادية، فكيف إذا ما حانت جُمع رمضان؟ هذه حملة ما تزال الإمكانات واسعة أمامها، وهي حملة فعل وليست حملة تضامن رمزي فقط.
ولننظر معاً إلى الخليل مثلاً؛ إذا ما حضر مئات الآلاف إلى محيط شارع الشهداء والمسجد الإبراهيمي في رمضان، وبقوا في الساحات بإرادة وعزيمة ماضية محددة الهدف، فهل ستبقى الحواجز في مكانها؟ أم يمكن للخليل أن تستعيد روحها وتواصلها مع بلدتها القديمة واحتضانها للمسجد الإبراهيمي؟ وأين سيمسي التقسيم الصهيوني حينها؟ وإذا ما اجتمعت تلك الآلاف وحاصرت مستوطنات شرق الخليل على مدى أسابيع وشهور، أسوة بما حصل في باب الأسباط في 2017، فهل ستبقى تلك المستوطنات في مكانها؟ وهل سيبقى أهلها فيها حتى وإن بقيت المباني؟
ماذا لو نقلنا تلك التساؤلات إلى القدس؟ إلى فرض الاعتكاف في رمضان وإلى استعادة باب المغاربة في الأقصى، أو إلى حصار الحي اليهودي وبؤر الاستيطان الجاثمة على صدر المركز العربي المقدسي للمدينة؟
لعل “الواقعية” المتفشية تطرح أسئلة ملحّة: كيف يمكن أن يحصل ذلك في ظل صفقة القرن والتبني الأمريكي المطلق؟ كيف يتحقق تراجع صهيوني في ظل التخلي العربي الرسمي والتطبيع؟ كيف يحصل في ظل “الانقسام”؟ لعلها صروح أوهامٍ تلك التي نبنيها! حسناً، ألم يتراجع الاحتلال في الخان الأحمر في 2018 في ظل انحيازٍ أمريكي وتخلٍّ عربي و”انقسام”؟! ألم تفرض جماهير القدس نصر باب الرحمة وتفتح المصلى رغم أنف شرطة المحتل في ظل الظروف ذاتها؟! ألم ينطلق الفجر العظيم ويسري روحاً عبر المدن والحدود في ظل الظروف ذاتها؟!
ترى هل هو الوهم الذي يدفعنا إلى الأمل؛ أم هو الذي يُقعدنا عن تحقيقه؟!