أن يكذب شخص لتبرير خطأ ما وقع فيه، أو لتحقيق مصلحة ما، أمر غير مُستغرب، فهو وإن كان خطًا ومحرّمًا، إلا أنه شائع نوعًا ما، لكن ما يثير الاستغراب، أن يكذب الشخص بلا سبب، فيتحدث عن تفاصيل في حياته غير موجودة أصلًا، كأن يؤكد تميزه في عمله، أو يكثر الكلام عن الرفاهية التي يعيش فيها، وعن علاقاته الاجتماعية المميزة.
هذا على الأغلب يفعل ذلك ليغطي على ما يراه نقصًا، وربما يعاني من "خداع النفس".
و"خداع النفس" علميًا هو "توهم الإنسان لحقيقة نفسه وإمكاناته وظروفه على نحو يخالف الواقع، ولكن يتفق مع هواه ورغبته، والفرد بطبيعة الحال لا يكون متعمدًا ذلك، بل إنه يقوم بخداع نفسه دون وعي بذلك، كأن تكون إمكاناته العقلية والعلمية ضعيفة ويري هو عكس ذلك".
مريض وليس كاذبًا
تقول "نورهان الشيخ": "البعض لا يتردد عن الكذب في أي موقف، ولأي سبب كان، ولكن أحيانًا يبدو الأمر أكبر من الكذب، كأن تجد شخصًا يتحدث عن أمنياته، التي لا تمت للواقع بصلة، وكأنها حقيقة واقعة يعيشها ويستمتع بها".
وتضيف: "هؤلاء لا أعرف كيف أتعامل معهم، لثقتي بأنهم يعانون من مشكلة نفسية، وليسوا مجرد أشخاص اعتادت ألسنتهم الكذب، فالكاذب لا مشكلة عندي في فضحه وتوجيه اللوم له لأنه يستحق ذلك، أما من أشعر بوجود مشكلة نفسية عنده فأنا أشفق عليه ولا أجد طريقًا لمساعدته أو التعامل معه".
وتتحدث "علا رجب" عن زميلة دراسة تعرفت إليها في المرحلة الابتدائية، تقول: "في الصف الخامس الابتدائي انتقلت إلى مدرسة جديدة، ومن اليوم الأول لي في المدرسة بدأت الزميلة التي تشاركني المقعد بالحديث عن حياتها المرفهة، وعن الألعاب التي يشتريها لها والدها من الخارج عندما يسافر للعمل، وكانت تتحدث عن ذلك بأدق التفاصيل، كأن تصف الدمية التي تماثلها في الحجم للدلالة على كبرها وجمالها، وعن ملابس هذه الدمية، وسريرها الخاص، وغير ذلك من التفاصيل التي لا تدخل العقل".
وتضيف: "يبدو أن الفتاة استغلت عدم معرفتي المسبقة بها، فنقلت لي الصورة التي ترسمها لحياتها في خيالاتها"، متابعة: "عندما سألت ابنة عمّها، التي هي زميلتنا في الفصل ذاته، عن صدق ما تقوله لي، أكّدت لي أن كلامها عارٍ عن الصحة، وأن والدها لم يسافر من قبل مطلقًا".
وتوضح أنها التقت بهذه الصديقة بعد سنوات طويلة، فإذا بها على حالها ذاته، ولكن مع اختلاف الأكاذيب التي تسردها، فقد طوّرتها لتكون مناسبة لعمرها واحتياجاتها.
منفصل عن الواقع
يقول الأخصائي النفسي زهير ملاخة: إن خداع النفس هو اضطراب في رؤية الإنسان لذاته، بحيث يقنع نفسه بامتلاكه أشياء لا يملكها فعليًا، ويكون منفصلًا عن الواقع، وتكون إمكاناته وقدرته على مواكبة الواقع تختلف عما يشعر به في داخله.
ويضيف لـ"فلسطين" أن الخداع لا يكون في كل تفاصيل الحياة، وإنما يعيشه في الأشياء التي يفقدها الفرد ويتمنى امتلاكها لكن غير قادر على توفيرها وتطبيقها، فهو يتمنى ولكن الواقع يحول بينه وبين ما يريد، وكذلك ما لديه من إمكاناتٍ وتعامل المجتمع معه لا يسمحان له بذلك.
ويتابع عن السبب: "يُصاب الفرد بهذه الحالة بسبب الظروف التي مر بها، لأن الظروف هي التي تؤثر في الإنسان ومسار حياته، فهو مثلًا قد يكون وجد في طفولته تضخيمًا أهّله بشأن نظرته لنفسه وقدراته، فأصبح يعاني من تعظيم الذات".
ويوضح ملاخة: "يمارس الشخص الخداع في محطات معينة من حياته، والسجل الحياتي له وحالته والظروف التي مر بها تحدد هذه المحطات، وهو غالبًا ما يكون قد عاش صراعًا كبيرًا وعانى من اضطرابات نفسية فصلته عن الواقع وتعرض لصدمات اجتماعية ومعاملة قاسية دفعته لعيش الخداع مع الذات".
ويبين أن خداع الذات يضع من يعاني منه في حالة من الصراع مع الذات، فهو يعتمد على مسايرة الجانب التخيلي الذي يعيشه، لكنه عندما يصطدم مع الواقع يجد العكس، فهو في خيالاته يشعر بالنشوة والسعادة والتوافق مع رغباته، وعندما يرجع للواقع يتألم ويعاني من الصراع ويتبين له الضعف الذي يمر به في الواقع، وهذا يسبب له الشعور بالنقص والدونية، إضافة إلى أنه يتعرض لعدم القبول من المحيطين، مما يؤثر في علاقته مع نفسه ومع الناس، وهذا ينعكس على نفسيته بشكل عام.
وعن العلاج، يشير ملاخة إلا أن من يخدع نفسه ويعيش الوهم الكاذب مع الذات، يكون المحيط به أكثر أثرًا في علاجه، لذا على القريبين منه تعديل سلوكه وأفكاره وأن يساعدوه في بلورة نظرته لذاته بشكل حقيقي، ويوجهوه إلى ما يهتم به ويفكر فيه.