لأنه بدا فعلاً (متهوراً) ومناوئاً لموجة الردة التي ضخها النظام الرسمي العربي خلال السنوات الأخيرة، فقد شنّ ما يعرف بالذباب الإلكتروني حملة هجوم إلكترونية كبيرة على رئيس مجلس الأمة الكويتي (مرزوق الغانم)، عقب كلمته أمام اجتماع الاتحاد البرلماني العربي في عمّان، وهي الكلمة التي هاجم فيها صفقة القرن منتصراً للقضية الفلسطينية ومنافحاً عن حقوق الشعب الفلسطيني، ثم رمى نسخة من خطة الرئيس الأمريكي في سلة المهملات.
كان طبيعياً أن يبدو هذا الموقف عظيماً – وهو موقف شجاع ومتقدم بالفعل – وسط هذه الحالة من التردي التي تعم المنطقة العربية، ومع هذا التراجع في الاهتمام بالقضية الفلسطينية، وبعد حملات التطبيع العلنية مع الاحتلال الصهيوني التي توجّهها أنظمة عربية وخصوصاً السعودية والإمارات ومصر، وبعد أن كان الموقف العربي في عمومه ضعيفاً ومرتبكاً في التعليق على صفقة القرن، ومتحاشياً قدر الإمكان إغضاب الولايات المتحدة.
مرّ وقت على القضية الفلسطينية كانت خلاله في قلب الاهتمام العربي رسمياً وشعبيا، وحتى الأنظمة المتخاذلة التي ترى فلسطين عبئاً عليها كانت تضطر لإفساح المجال للوجدان الشعبي ليترجم تضامنه مع فلسطين بطرق شتى، ولم تكن تمارس قمعاً مباشراً تجاه من ينتظم في حملات الدفاع عن فلسطين ومساندتها، مادياً ومعنويا، بل كان مِن هذه الأنظمة من يستر تخاذله أو فساده أو استبداده الداخلي بادعاء الوصل بفلسطين ومساندة قضيتها.
اليوم، ومع هذا التراجع العربي الكاسح، لاسيما على المستوى الرسمي، صار تجريم التعاطف مع فلسطين حالة رائجة، وثمة أنظمة تحصي على شعوبها أنفاسها وتحظر أي شكل من أشكال التضامن مع فلسطين، ولو بمستوى التضامن الكلامي، وقد مرّت أحداث كبيرة خلال السنوات الأخيرة كالعدوان على الأقصى والهجوم على غزة، وكان الموقف الشعبي في تلك البلدان صامتاً ومتراجعا، لأن كلفته باتت عالية، بل بات المطلوب أن تهاجم تلك الشعوب فلسطين وتشكك بثوابتها وتستهزئ بها، على نحو ما تفعل لجان الذباب الإلكتروني المدعومة سعودياً وإماراتيا.
رغم كل هذا، ومع تراجع الموقف الشعبي العربي المتضامن مع فلسطين إما بسبب حملات القمع أو نتيجة انشغال ساحات عربية كثيرة بجراحها، إلا أن موقف رئيس مجلس الأمة الكويتي (مرزوق الغانم) يبقى معبّراً عن حقيقة الوجدان العربي الشعبي، الذي ما عاد يجد متنفساً لترجمة مشاعره ومواقفه، وحيثما غاب تكميم الأفواه أو انحسر، وأُتيح قدر معقول من الحرية، فإن تلك الشعوب لن تكون –في أكثرها- إلا منحازة للحق والأصالة، ومنتمية لجذورها، ومدافعة عن هويتها، ومبدية مشاعر التضامن الجمعية تجاه قضايا الأمة ومقدساتها.
كان لهذا الموقف أن يكون هو الأصل، بمعنى أن يكون موقفاً طبيعياً منسجماً مع القناعات العربية والإسلامية، وأن يمثل أضعف الإيمان في التصدي لصفقة ترامب، وأن تكون هنالك مواقف كثيرة مشابهة له في جوهرها، لولا حالة الانتكاس العربية مؤخراً والهرولة لخطب ودّ كيان الاحتلال، وتجريم المقاومة الفلسطينية، وحظر التضامن معها، وهي حالة أسس لها حلف الثورة المضادة، الذي أصاب إرادة الشعوب في مقتل يوم انقلب على خياراتها، وحاصر محاولاتها للتحرر من ربقة الاستبداد، وأدخل الحالة العربية في مرحلة من التيه والتفكك واليأس، حتى صرنا نستعظم أي موقف مساند للحق الفلسطيني، ونجد العزاء في أي صوت شجاع يغرّد خارج سرب الانحناء الرسمي العربي، ولا ندري إلى أي مدى ستطول هذه الحالة من الجفاء والاغتراب؛ الجفاء البيني داخل البيت العربي والإسلامي، واغتراب الأمة عن قضاياها، بل واغتراب أصحاب القضية عن ذواتهم وواجباتهم ومواقعهم منها.