بعد خطاب محمود عباس الذي أعقب إعلان ترامب (صفقة القرن) كان هناك تفاؤل بإمكانية أن يؤسس الخطاب لشيء جديد على الأرض، فيما يتعلق بسياسات السلطة وقناعاتها، أو ما يخصّ إدارة العلاقة الداخلية بين الفصائل الفلسطينية.
مرت عدة أيام ولم يحدث شيء يكافئ خطورة الحدث، ثم كان خطاب عباس أمام الجامعة العربية، كان ضعيفًا ومهتزًّا، وفيه إشارة إلى الاستمرار في نهج الجمود والدوران في فلك السياسات ذاتها، مع تغيرات طفيفة تتعلق بالأداء الإعلامي، وهذه كلها لا تُحدث أثرًا في عالم السياسة، ولا تؤسس لفعل جديد يكافح المخاطر المترتبة على الصفقة، لو شرع الاحتلال في إنفاذها من جانب واحد.
لا جدوى من إعلان النية لقطع العلاقة الأمنية مع الكيان الصهيوني ولا يزال في سجون السلطة شباب يحقق معهم على خلفية تشكيل خلايا لمقاومة الاحتلال، ولا جدوى من إعلان مقاطعة أمريكا ومديرة وكالة الاستخبارات الأمريكية (CIA) تزور رام الله سرًّا الخميس الماضي، أي بعد يومين على إعلان الصفقة، وتلتقي ماجد فرج وحسين الشيخ!
عمليًّا، ماذا تريد الإدارة الأمريكية و(إسرائيل) من السلطة أكثر من ذلك، أي أن يظل التعاون الأمني قائمًا معها؟!، مهما كانت القطيعة السياسية شديدة، فهل سيكترث ترامب أو نتنياهو بسيل الشتائم والإدانات التي يطلقها إعلام السلطة ضد سياستهما؟!، هم يعرفون ما يريدون من السلطة تمامًا، ويعلمون أنها لن تفرط بدورها الأمني في الضفة الغربية، الساحة التي يُنتظر منها أن تواجه مخططات الصفقة، والسلطة لا تتمسك بدورها الأمني فقط لأجل إرضاء أمريكا و(إسرائيل)، وتجنب استجلاب غضبهما الذي قد يطيح بالسلطة، بل لأن هذا ينسجم تمامًا مع منهج عباس الذي ما يزال يعلن انحيازه له رغم كل ما جرى، أي محاربة المقاومة المسلحة، في حين يصرّ على أن الدولة المطلوبة يجب أن تكون منزوعة السلاح!، ولستُ أدري أهناك عاقل في هذا العالم يمكن أن يحلم بدولة منزوعة السلاح أو يراها جديرة بالمطالبة، أو قادرة على الحياة والاستمرار؟!
تفاصيل الصفقة تقول بوضوح إن (حل الدولتين) قد بات وهمًا، وإنه لا مكان لدولة فلسطينية داخل فلسطين أو إلى جانب دولة الكيان، وإن الحقائق التي فرضها الاحتلال على الأرض قد قالت هذا منذ سنوات طويلة، لكن انكشافه بهذا الجلاء يجعل الكرة في ملعب السلطة وحركة فتح بالدرجة الأولى، فقيادة فتح هي الجهة المطالبة باتخاذ موقف متقدم حاليًّا بعد انتهاء موسم الشجب والإدانة والغضب، ولكن حتى الآن لم يحدث أي شيء، لا على صعيد تحقيق المصالحة الداخلية والتوقف عن احتكار القرار الفلسطيني، ولا على صعيد التراجع عن الأخطاء الكارثية بحق القضية والشعب الفلسطيني، ألهذه الدرجة يبدو صعبًا الاعتراف بأن المسار الذي خاضته حركة فتح قد أوصلنا إلى هذه النتيجة؟!، ثم لو سلمنا أنه كان اجتهادًا سياسيًّا له ظروفه في حينه أو مسوغاته، فما الذي يسوغ الاستمرار في التمسك به الآن، وهذه الحالة من التيه واللاموقف، سوى إعلانات يثبت مع الوقت عدم صدقيتها، كإعلان وقف التنسيق الأمني الذي ظل يتكرر، وكان كل إعلان جديد يثبت أن إعلان وقفه سابقًا كان كذبة كبيرة؟!
مع هذا التردد والضعف وعدم التقدم بخطوة عملية جريئة واحدة، ما الذي تراه سيحول دون إنفاذ الصفقة، مع أن كثيرًا من تفصيلاتها قائمة بالفعل؟!، لا شك أن أي شيء من الجهد العبثي الذي تمارسه السلطة لن يفعل شيئًا لوقفها أو منعها، لأن المطلوب قرارات عملية مباغتة للاحتلال تتجاوز نطاق الشكليات والعلاقات العامة وخطب المهرجانات.
لقد كان إعلان نقل السفارة الأمريكية إلى القدس في أواخر عام 2017م مقدمة لإعلان الصفقة، أو لنقل بالون اختبار لحدود وآفاق ردود الأفعال المختلفة، ولما كانت متواضعة وقليلة الكلفة، جاء إعلان الصفقة بذلك المشهد الممتلئ عنجهية وصلافة وعدم اكتراث بأي شيء، وفي حال ظل الكيان الصهيوني وحليفته أمريكا مطمئنين إلى أن الأوضاع على الأرض –في المدى الراهن- لا تحمل مؤشرات مقلقة على ردود فعل كبيرة وضاغطة، فستترجم كل بنود الخطة واقعًا على الأرض، وسينتقل إلى ما قد يكون أخطر منها بكثير.