أتى آذار هذا العام كعادته، محملًا بعبق الربيع، متخمًا بهموم الذكريات، مثقلًا بجنين الأمل الذي ينمو داخل كل فلسطينية تنتظر أن ترى أحلامها، تنتظرها وتسعى إليها، فليس من ديدنها المكوث والانتظار، فكيف للمرابطة المجاهدة أن تهدر وقتها في الانتظار؟! في آذار تتفتح الأزهار وتشدو العصافير وتتكاثر المخلوقات، وتزداد المرأة جمالًا كما أمنا الأرض.
من دون مقدمات طويلة: في الساعة الحادية عشر مساءً قبل أن يغادر يوم الثامن من آذار، اليوم الذي تتذكر فيه المجتمعات المرأة وفضلها على المجتمعات وتحتفي بها وبإنجازاتها وبقضاياها؛ أخذت طرقات عنيفة تدق الباب فجأة.
مَن الطارق يا تُرى؟، وماذا يريد بعد منتصف الليل؟، ولماذا لا يتأنى حتى أستطيع أن أرتدي شيئًا يسترني عن أعين الغرباء؟!، لكن الطارق لم يتأنَ؛ فقد بدأ بالصراخ والتهديد والوعيد: "افتحوا الباب وإلا ...".
فتح زوجي الباب، فإذا هم يسارعون إلى الداخل، يطلبون هويات أهل البيت، فعل زوجي ما أرادوا، فإذا هم ينادون اسمي، أجبت بنعم، فاقترب اثنان مني قائلين: "أنتِ رهن الاعتقال"، ارتديتُ جلبابي، ونظرت ناحية زوجي مُودعةً طالبة منه أن يدعو لي، شعرت به يكاد ينفجر غيظًا، ويكاد يقع أرضًا لعجزه عن حمايتي، طمأنته بنظراتي، ووضعوا القيد في يدي، كان باردًا، ضيقًا، شعرت بألم أخذ يزداد رويدًا رويدًا منه.
اقتادوني إلى سياراتهم التي تنتظر في الخارج، أصعدوني إلى إحداها، ووضعوا عصابة على عيني، كنت رابطة الجأش جدًّا، كنت شجاعة إلى درجة لم أتوقعها من نفسي، شعرت بنفسي قوية وعزيزة، كملكة يحيط بها الحرَّاس من جميع الجهات، رفعت رأسي إلى الأعلى بشموخ، لم أسمح للقلق بأن يساورني، أو للضعف بأن يعتريني، ألست أمًّا لشهيد، وأسير ومطارد؟!، أخذت عهدًا على نفسي ألا أمنحهم شعورًا بالراحة التي يتمنون.
سأبقى كشجرة زيتونٍ صامدة يصعب على الأعاصير _مهما بلغ جبروتها_ أن تهزها، أو تخلخل جذورها، أخذتُ أردد همسًا بلحن: "إن عشت فعش حرًّا، أو مت كالأشجار وقوفًا"، أصغوا في البداية لصوتي، ثم صرخوا بي: "اصمتي".
كانوا يعتقدون بأنني سأكون فريسة سهلة لخداعهم وكذبهم ومراوغتهم، اعتقدوا أنهم سيغررون بي لأني امرأة، واعتقدوا أن ابني صابر سيرضخ لضغطهم عليَّ وسيسلم نفسه، ولكن بُعدًا لهم كما بعدت ثمود، فمن ربى الرجال غيري؟!، من أنشأهم ليكونوا مثالًا في الشجاعة والقوة والجرأة غيري أنا؟!، ماذا بإمكاني أن أكون سوى قدوة حسنة أمام أبنائي ومثالًا للصمود التحدي؟!
صمتُّ، وصبرت وتحملت، وكشفت ألاعيبهم، وصمدت أمامها، وأنا مصرة على إجابةٍ واحدة: "إنني لا أعرف أي شيء عن صابر منذ مدة طويلة"، أعياهم الملل مني، وأخذ منهم اليائس كل مأخذ، وأعياني التعب والإرهاق وقلة النوم.
بعد ستة أشهر عانقت الحرية، وكنت مطمئنة إلى أن عزيمة صابر كالصخر لا ولن تلين، فإذا كان اعتقالي لم يفت في عضده؛ فأنا مطمئنة إلى أن ابني لا يثنيه شيء عن الدرب التي اختارها لنفسه.
ما زاد من إيماني بسبيل المقاومة الذي أؤمن به وغرسته في نفوس أبنائي أنني لم أسمع خلال اعتقالي عن تظاهرات خرجت للمطالبة بحقوقي، أو اعتصاماتٍ للتعريف بقضيتي ولفت الانتباه إليها وما أواجهه في الأسر، ألست امرأة انتهكت حريتها، وعوملت بقسوة لا تليق بها؟!، أم أن المرأة الفلسطينية تختلف عن باقي نساء العالم في الحقوق؟!