لم يكن في حسبان الشركات المصنعة أن تكون هذه البالونات يومًا في أيدي ثائرة تطالب بالتحرر من حياة القهر والإذلال، التي يفرضها الاحتلال، ففي الحقيقة هذه الأنفوخة أو النفيخة وفق مصطلحات اللغة ما هي إلا أداة بريئة أعدت للترفيه وإضفاء البهجة على نفوس الأطفال، وعرفها العالم بأشكال وألوان مختلفة وهي تزهو في الميادين والساحات وأروقة الاحتفالات.
لكن أحدًا لم يتخيلها يومًا تخرج عن طوعها وتتمرد على روتين الغرض المدني ونقل رسائل السلام، فمن يدري الأسباب التي تدفع قطعة من المطاط للقيام بدورها الوطني وهي تنطلق من أرض المعاناة (غزة) إلى سماء المستوطنات، إنها ليست ألعابًا طائرة، ولا مجرد بالونات موسمية، بقدر ما هي أدوات فاعلة ومؤثرة في سلم التصعيد، حملت أشكالًا جديدة للتعبير عن تفاقم المعاناة، وتسلحت بهيئة غير معهودة وخرجت عن طبيعتها، لأنها تأثرت بما يتأثر به الوطن، وانتفخت بهموم الغزيين وحملت حملًا ثقيلًا يمكنها من إيصال الرسالة لتحط بها فوق الثكنات، والبيوت، والمزارع، ليكون هبوطها اضطراريًّا في هذه المناطق، وهي تنذر بدخول الأوضاع في ظروف تصعيد جديدة، فهناك في غزة موت يتهدد الناس، حيث الجوع والفقر والمرض، بفعل الاحتلال وبقاء الحصار.
فلا أحد يمكنه أن يقنع هذه البالونات بالتوقف عن التسلح المستمر بالمفرقعات، وشعل النيران، أو على الأقل أن يقنعها أن تجعل رحلاتها الجوية في المديات القصيرة، فهي حتى ليست لديها ساعة يدوية لتراعي وقت نوم الجنود والمستوطنين، بل هي عازمة على القيام بالفعل والتأثير بإحداث الحرائق، ونشر الخوف، والإزعاج المستمر، هذه رسالتها الحالية، ورسالة من يقف خلفها، ثوار غاضبون، ضاقوا ذرعًا بظروف الحياة، ولم يعودوا يحتملوا سنوات جديدة من الحصار، فقد تحطمت الآمال على صخرة المماطلة الإسرائيلية.
إنهم ببساطة يريدون حياة أفضل، يأملون زوال الحصار، يصرخون أمام أحرار العالم: ها نحن هنا نموت في غزة، لكننا لن ندفع الثمن وحدنا، فمن يزرع الموت في غزة عليه أن ينال قسطًا من الثمن، من أمنه، ومستقبل كيانه، فلا راحة بالمجان، ولا عودة للوراء، فكما ترش المزارع الفلسطينية بالمبيدات وتحرق المزروعات بفعل الطائرات الإسرائيلية، يجب أن تكتسي المساحات الزراعية في المستوطنات بلون السواد وتشتعل في أشجارها لهيب الحرائق، ولسنا وحدنا من ينام على أصوات قصف الطائرات، فالجنود والمستوطنون عليهم أن يخضعوا للظروف نفسها.
إنها ضريبة الاحتلال، يتجرعونها رغم أنوفهم؛ فكل هدوء في غزة مخادع، بل هو مقدمة لجولات عنيفة وقاسية مع المحتل، فلا يمكن للجسد الفلسطيني أن يحتمل هذه العلل، لسنا دعاة للحرب، لكننا أصحاب حق، ولدينا قضية عادلة، ونؤمن أن التدافع والاشتباك المستمر هو المقدمة الحقيقية نحو زوال الاحتلال.
ويبدو أن الاحتلال حتى الآن يميل إلى تجاهل المطالب، ويحاول علاج الوضع القائم بنيران المدفعية والطائرات، ردًّا على البالونات، لا يريد أن يرضخ، أو يستجيب، ولا يزال يناور بالمماطلة المعهودة، الأمر الذي يزيد من حجم الإصرار لدى الثوار في غزة على تصعيد حراكهم، ومن يدري إلى أين يمكن أن نذهب تحت هذا الوضع، فالوسطاء يترقبون، والإسرائيليون تتقاذفهم الأزمات الداخلية والتهديدات الخارجية، وذاهبون نحو مزيد من التلكؤ والمماطلة، والمناوئون للحكم في غزة ليس لديهم خيارات يمكن أن تغير أجنداتهم الشخصية التي سببت إلى حد ما صورة من صور المعاناة القائمة، فإن لم يحسن الأطراف فهم هذه الإنذارات سنكون أمام خطوات أكثر عنفًا، من شأنها تفجير الأوضاع، لكنني أعتقد أنهم سيتدخلون قبل فوات الأوان، فلا أحد يريد حربًا جديدة في هذه المنطقة.