قائمة الموقع

"البيت للبيع".. حينما يكون ثمناً لإعادة بصر الفتى "أحمد"

2020-01-05T19:38:00+02:00
الشاب أحمد علي

بعدما جفت المنابع وأوصد الأمل أبوابه في وجه المُسن حسن علي الذي بلغ الـ 60 من عمره، للتغلب على فاجعة اختطفت بصر ابنه "أحمد"، طلب من ابنه الآخر أن يكتب على "جدران الحارة" ومواقع التواصل الاجتماعي "المنزل للبيع".

كـ "سهم" قاسٍ وقع قرار "بيع البيت" على جميع أفراد العائلة الذين لا ملاذ لهم سوى ذلك المنزل ذو الجدران المتهتكة -إلى حد ما- ويتربع على مساحة لا تتجاوز الـ 85 متراً، في إحدى أزقة مخيم النصيرات وسط قطاع غزة، لكنّ "حمدي"- نجل حسن- ليس أمامه خيار سوى التنفيذ.

المُسن "علي" المُكنى بـ "أبو محمد" لديه من الأولاد ستة- خمسة منهم متزوجين- يعيش قصة عذاب بطلها آخر العنقود "أحمد" الذي فقد البصر نتيجة حادث موجع، ويحتاج إلى زراعة قرنية لعينيه، بتكلفة تتجاوز الـ 30 ألف دولار، ما فاقم معاناة العائلة، سيّما أن المُعيل يتقاضى راتباً أقل من 900 شيكل لا تكفي لجزء من العلاج.

تفاصيل الوجع

بعد أن انتصفت شمس الظهيرة يوم الجمعة الذي صادف الثاني والعشرين من شهر فبراير/ شباط لهذا العام، بدأت تتسلسل تفاصيل الحادث الموجع لأحمد، كما يقّصها "الوالد حسن" ذو الوجه الذي غلب عليه سواد الهم، حينما توجهوا لورشة "سمكرة السيارات" لنجله الأكبر "محمد" الذي ورث المهنة عن والده.

هناك في "الورشة" انهمك الوالد بإصلاح ماكنة مُعطّلة- بُحكم خبرته القديمة- تُستخدم في إصلاح السيارات، تحتضن بداخلها مواد كيميائية خطيرة وهي "الصودا الكاوية والألمونيوم" ومواد أخرى حارقة.

بدأ "الوالد" بإصلاح الماكنة، وكان "أحمد" يقف خلفه لمساعدته، لكنه لم ينتبه للغاز الذي يتسرّب عبر أنبوب مثقوب، وفق ما أخبرنا خلال زيارتنا له، وهو ما أدى لانفجار كبير، قذفه قرابة مترين، وأصابه بأماكن متفرقة من جسده.

أثناء حديثنا في إحدى غرف البيت، كان "أحمد" يلملم نفسه في إحدى زواياها، وهو يلوّح بيديه تارة ويلفت وجهه تارة أخرى، في محاولة للتغلب على أوجاع الحروق التي غيّرت ملامح وجهه ويديه، فيقول والده "الصودا والالمنيوم دخلت في عيون وأنف أحمد وضايقت نفسه".

ينتفض "أحمد" بعدما ابتلع ألمه ليبوح بما في قلبه عن أولى لحظات إصابته "أول ما انفجرت الماكينة ما أقدرت أحكي، لأنه المواد الكيماوية كانت مغرّقة وجهي(..) مشيت شوي وقعدت على الأرض وحطيت إيدي على وجهي ثم أجت سيارة نقلتني على مستشفى شهداء الأقصى".

ويُكمل "مجرد وصولي للمستشفى ودخولي قسم العناية المركزة أعطوني الأطباء إبر تخدير، أصحيت بثلاثة أيام".. يصمت قليلاً متعالياً على أوجاعه "بعد أن أفقت من أثر إبر التخدير في اليوم الرابع لي بالمستشفى صحيت أشوف وأميّز بين ألوان الإضاءة".

رحلة العذاب

هنا بدأ السؤال الحاسم يطرق ذهن المُسن "حسن" حول سُبل توفير العلاج اللازم لـ "أحمد" بعدما مرّت تلك الأيام الثقيلة على العائلة، فكانت أولى سطور صفحات "رحلة العذاب"، حينما اصطدم برد أحد الأطباء بعد إجراء الفحص "بعوض الله؛ أحمد مش حيرجع يشوف من تاني".

آثر ألا يسمع له و بنبرة غاضبة "أنا لو بدي أبيع قلبي بدي أعالجه!!"؛ حينها حالفه القدر بقدوم وفد أطباء عيون مصري للمستشفى، أحدهم يختص بتركيب القرنيات "صحيح الحادثة موجعة ووضع أحمد صعب، لكنّ برجع يشوف بعد وقت طويل قد يصل لسنة، يتناول خلالها علاج مكثف" نزلت كلمات الطبيب برداً وسلاماً على قلبه.

مرّ شهران على تناول العلاج الذي كتبه الطبيب المصري، بذل الأب المكلوم خلالهما جهد مضنٍ، توزع بين مشقة المكوث في المشفى ودفع التكاليف الباهظة، ثم أقرّ الأطباء بغزة ضرورة تحويله إلى مستشفى "سان جون" في مدينة القدس.

ألقى بنور ذاك الأمل الذي يتمسك بها في نفق غائر، حين التقى بهم طبيب في القدس تعود أصوله لمدينة غزة أعاد لهم اليأس "أنا آسف ابنك ما اله علاج نهائياً وما تتعب عليه كتير"، كلمات وقعت كالصاعقة على دماغ "أحمد ووالده"، اللذان شقا طريقاً صعباً عبر حاجز بيت حانون "إيرز"، ودفعا إيجار الطريق بـ "الدَين".. "أنت يا دكتور قتلتني وقتلت أبني في آن واحد" يرّد "أبو محمد".

عاد في نفس اليوم بـ "خُفي حُنين" يجر معه أذيال الخيبة مع بقاء بصيص من الأمل دفعه للتوجه لطبيب آخر في مستشفى العيون بغزة حاملاً معه التقارير الطبية التي استلمها من المستشفى بالقدس.

"يا دكتور أنا بدي أبيع البيت حتى أعالج ابني، لكنّ هل في أمل يستعيد بصره؟"، كلمات دار رحاها بين "أبو محمد" والطبيب، فردّ الأخير بعدما أجرى له فحوصات أخرى "ابنك إذا أجري له عملية تركيب قرنية، برجع يشوف زي أول وأفضل لأنه عصب العين سليم".

كلمات أطفأت حرقة قلب "أبو محمد"، سيّما أن الطبيب اتبعها بكتابة تقرير طبي "نموج رقم 1"، لتحويله للعلاج في مستشفى "الفاطمية" بمصر.

هذه المرّة وقع فصلٌ لم يكن في الحسبان بعدما حطّت أقدامهم المستشفى بمصر، فقد دأبت إدارة المستشفى على استدعاء الطبيب المختص بفحص شبكية العين.. قبيل وصول الطبيب حدّث لم يكن متوقعاً حيث تعرض لحادث سير غيّبه 8 أيام عن المستشفى وعلاج المرضى من بينهم "أحمد".

كان حدثاً لن ينساه من حياته، لكنّه لم يكّل أو يمّل وواصل الطريق، بعدما أقرّ له طبيب آخر أنواع عدّة من الأدوية ثم عاد لغزة؛ حيث طرأ تحسن طفيف على بصر "أحمد" وصار يرى لمسافة 3 متر تقريباً "لكن يا فرحة ما تمت" فقد استيقظ يوماً لم يرَ فيه تفاصيل الحياة.

لم يكن أمام طبيب من غزة سبيلاً سوى إجراء عملية جراحية معقدة، نسبة نجاحها 1%، إذ يوضع عدسة بلاستيكية داخل العين؛ لوقف تدفق السائل الزجاجي فيها، سأل الطبيب أبو محمد إذا ما كان يوافق على إجرائها، كبس حينها الخوف على أنفاسه، ولكنه أزاح ثقل هذا الخوف الذي أهلك روحه بثقته و إيمانه بالله؛ ليرد على الطبيب "أنا متوكل على الله أولاً وأخيراً".

مرة أخرى، يخرج أحمد عن صمته مُعبراً عن أحلامه البسيطة بعد هذا الحادث الموجع  "أمنيتي أعمل العملية وأرجع لدراستي وأعمل كل اللي في نفسي"، حيث كان المفترض أن يلتحق بالصف العاشر، لكنّه أزاح شبح الخوف بآيات من الأمل بقوله "تقادير ربنا رحمة والحمدلله على كل حال".

بعدما ناءت بروحه ثقل، يناشد أحمد أهل الخير؛ ليساعدوه بتركيب القرنيتين، والتي تبلغ تكلفة تركيب الواحدة منهما قرابة 15 ألف دولار، وهو ما أرهق كاهل والده، سيّما أنه أصبح مديوناً للصيدلية بسبب كثرة الأدوية التي يتناولها ابنه "أحمد" منذ بداية الإصابة، داعياً لأن ينظروا إليه بقلبٍ رحيم حتى يستعيد بصره.

"فهل تتحرك القلوب الرحيمة؟" لتسعف عائلة "علي" الفقيرة التي صار كل جهدها أن تُعيد البصر لحبيبتيّ ابنهم "أحمد" بعد هذا الحادث الموجع، في ظل تردي الوضع الاقتصادي لمُعيل العائلة، الذي دفع بأولاده الخمسة "المتزوجين" لترك البيت استعداداً للبيع.



 

اخبار ذات صلة